الهوية الوطنية والهويات الفرعية (حالة البحرين)
عبدالله جناحي
الإطار العام:
يتبنى هذا البحث رؤية المفكر العربي المغربي محمد عابد الجابري في مجال الهوية الثقافية التي قسمها إلى الدوائر الثلاث التالية:
الدائرة الأولى: تتمثل بالفرد ككائن له احتياجاته وعليه الضغوطات التي تجبره على الانعزال أو الاحتجاج أو الرفض والتطرف.
الدائرة الثانية: تتمثل في الجماعة أكانت قبلية أم طائفية أم أثنية أم غيرها من الجماعات التي يلجأ إليها الفرد أمام غياب البدائل الأخرى كملاذ وحماية وحصانة، وهي الدائرة التي يتكون فيها لا شعوراً جمعياً سياسياً واجتماعياً وقيمياً تصبح له قوة مادية مؤثرة.
والدائرة الثالثة: هي الوطنية أو الأمة (القومية) والتي تحتضن الدائرتين السابقتين، وكلما كانت هذه الدائرة تمتلك مقومات الجذب من حيث توفير مبادئ وطنية وحقوقية كلما كانت الدائرتان السابقتان في حالة تراجع لصالح الدائرة الوطنية أو القومية.
المحددات وهي بدورها منشطات:
الدوائر المتقدم ذكرها هي في حالة من التضخم أو الانكماش بالاعتماد على حالة الفرد أو الجماعة والتموضع الخاص بهما ولاءً أو معارضة، وهي ترتبط بالمحددات أو المنشطات المتولدة من الكوامن المادية والثقافية الخاصة بأي من الدوائر الثلاث هي بحد ذاتها محددات أو منشطات للمبادئ الوطنية والإنسانية على النحو التالي:
مبدأ المواطنة: فكلما توفرت سياسات ومواقف وتشريعات عملية وحقيقية تنبذ التمييز بين المواطنين على أسس طائفية أو قبلية أو أثنية أو غيرها وتحقق المساواة بينهم وتجسد دولة القانون والمؤسسات على الجميع، كلما ضعفت دائرة الجماعة القبلية والطائفية والأثنية في الهوية الثقافية وقويت وتضخمت الدائرة الوطنية الكبرى (أو القومية) وأصبح الفرد منتمياً ومرتبطاً بهذه الدائرة(الهوية) ومبتعداً أو مقللاً من الاعتماد والانتماء للدائرة الثانية (الهويات الفرعية).
مبدأ المشاركة السياسية: في صنع واتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكلما توسعت هذه المشاركة وأصبحت حقيقية وليست ترقيعية وتحققت العدالة في توزيع الدوائر الانتخابية وأصبحت السلطة التشريعية مستقلة وقوية وقادرة على أن تعبر عن رأي ومصالح الناس كلما أيضاً ضعفت الولاءات الطائفية والقبلية والأثنية إذا ما رأت هذه الولاءات بأنها قادرة على أن تكون لها تمثيلها في المجالس الانتخابية التشريعية والبلدية، وبالتالي قويت الدائرة الوطنية وتراجعت تأثيرات الدائرة الثانية.
مبدأ التوزيع العادل للثروة (الاقتصاد الريعي): فمن المعروف أن الاقتصاد الريعي يخلق قيماً وسلوكاً وممارسة تتعارض ومع التوزيع العادل للثروة، وبالتالي فكلما تم توزيع الثروة الوطنية بشكل عادل ومنصف على عموم الشعب والمناطق من حيث التنمية والخدمات والرفاه الاقتصادي والاجتماعي كلما أصبحت الدائرة الوطنية من ضمن الدوائر الأخرى هي القوية والقائدة للمجتمع، وأصبحت الأقليات أو الطوائف أو الهويات الأخرى بمثابة غنًى وتنوع ثقافي وفكري وديني تعزز الدائرة الوطنية أو القومية.
مبدأ حرية التقاضي و القضاء المستقل: الدولة العادلة تتمثل أساساً في عدالة منظومة بناها الفوقية والمنعكسة في القوانين و التشريعات الضامنة لحسن إدارة مجموعة البني التحتية للدولة من جهة، وصيانة حقوق ومصالح الأفراد و الجماعات من جهة أخرى، استناداً على المبادئ الثلاثة أعلاه. القضاء المستقل والعادل هما الضمانة في تحقيق العدالة والأمان للجميع أفراداً أو جماعات من خلال التطبيق المتجرد لمجموعة التشريعات والقوانين المنبثقة من الإرادة المشتركة عبر آلية العملية التشريعية التعاقدية، كما أن تحقيق هذا المبدأ يتم بالممارسة النزيهة من قبل القضاة الجديرين غير الخاضعين لهيمنة أي من السلطات السياسية أو سطوة الأفراد النافذين أو الجماعات الضاغطة حيث مسطرتهم العدالة العمياء للقوانين والتشريعات الضامنة لحقوق الإنسان، فكلما تحققت شروط العدالة الناجزة وباستقلالية تامة عن محددات أي من الدوائر الثلاث يكون شرط دولة المؤسسات والقانون متحققاً للإطار الجامع لوحدة المجتمع والدائرة الوطنية.
المتغيرات الأساسية:
من الممكن أن نعطي للمحددات المؤثرة في المبادئ الأربع السابق ذكرها أعلاه، أسماء أخرى مثل الظروف التاريخية والسياسات الأمنية والاقتصادية التي يستغلها و يمارسها أصحاب السلطة كأداة تمتلك القوة والعنف والثروة والقرار، فكلما كان التناقض في محددات الدوائر الثلاث كانت الممارسات التسلطية و الأمنية شديدة القمع مع قيود شديدة على الحريات العامة تدفع الفرد إلى اللجوء للدائرة الثانية والعكس صحيح. فكلما كانت الظروف السياسية انفراجيه وديمقراطية وتشاركية كلما انتقل الأفراد من دائرة الجماعة (الطائفة) إلى دائرة الوطن أو الأمة. وكلما كانت السياسات الاقتصادية والتنموية للدولة بعيدة عن المحسوبية والفساد والتمييز في تقديم الخدمات وتضع العدالة بوصلتها كلما أصبحت الدائرة الوطنية أكثر اتساعاً وقوة وتأثيراً.
العلاقة الجدلية بين المحددات والمتغيرات:
تراجع أو تقوية إحدى الدوائر الثلاث وبالأخص الدائرة الوطنية أو القومية ودائرة الطائفة المغلقة يعتمد بمدى فاعلية وتنفيذ المنشطات الأربعة التي تم ذكرها وهي: المواطنة المتساوية والمشاركة الشعبية والعدالة الاقتصادية والقضاء العادل، كما يعتمد على مدى غلبة الأولوية الأمنية والقمعية للحريات العامة والفوضى الاقتصادية على أولوية الاستقرار المجتمعي عبر الانفراج والمزيد من الديمقراطية وتعزيز الحريات والتنمية الاقتصادية والبشرية العادلة. ويجدر القول هنا بأن الطائفة والقبيلة كإحدى أوجه للدائرة الثانية تمتلك من الخصائص بما يجعلهما في حالة تضاد وتناحر دائمين لا يمكن التعايش بينهما نظرا للاختلافات البنيوية في طبيعة و أساس تكويناتهما، فالطائفية تتميز بقوة روحية لمحدداتها و منشطاتها، أما القبلية بالإضافة إلى قيمها الروحية المستمدة من مجموعة العقائد و القيم القبلية، فأن قوة محدداتها و منشطاتها تستند أساساُ على القوة المادية لوجودها القائم على التحكم في الأرض و الثروة وعلى العصبية كما أسهب فيها ابن خلدون.
ومن الأهمية التأكيد بأن اهمال مبدأ واحد من المبادئ الأربعة سوف يؤدي إلى بقاء دائرة الطائفة أو القبيلة مغلقة وقوية ومبررة في تأثيراتها السلبية على الدائرة الوطنية والقومية، حيث أن غياب مبدأ المواطنة وبالتالي استمرار التمييز واللامساواة بين المواطنين حتى في ظل وجود تشاركية سياسية شكلية وترقيعية، ومحاولة العدل في توزيع الثروة الريعية بحسب مسطرة الراعي والرعية، فإن مبرر الانحياز لدائرة الطائفة سيكون قوياً وسيبقى اللاشعور الجمعي حاضر للطائفة ضد التمييز الذي يمارس بحقها. المعادلة ذاتها لو أن مبدأ المشاركة اختفت. ورغم أن قناعتي أن أي اختلال في محدد من المحددات الأربعة يعني أن باقي المحددات هي في حد ذاتها غير صادقة في مراميها وغير حقيقية وأنها ترقيعية وشكلية تهدف تجاوز استحقاقات إنسانية وتعاقدية، وعليه فهناك علاقة جدلية وتفاعلية بين المحددات والمتغيرات بعضها مع بعض.
مكوّنات المجتمع البحريني:
يتكون المجتمع البحريني ضمن سياق التطبيق للهوية الثقافية التي تم شرحها أعلاه بدوائرها الثلاث، ومحدداتها ومتغيراتها الثلاثة أيضاً في تكوينات فرعية تشكلت تحديدا نهاية القرن الثامن عشر وفق التقسيمات التالية:
قبيلة الأسرة الحاكمة والقبائل المتحالفة معها المنتمين مذهبيا إلى أحد المذاهب السنية، المواطنين المستقرين منذ القدم والمنتمين إلى المذهب الجعفري بالإضافة إلى المهاجرين من الدول المجاورة كالعراق والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية بما فيهم الشيعة ومن الأصول الفارسية (العجم)، العرب المنتمين إلى مذاهب السنة من الأصول غير القبلية من المواطنين المستقرين منذ القدم أو المرتحلين من منطقة عربستان في إيران، بالإضافة إلى المجموعات أصحاب المذاهب السنية المختلفة المهاجرين من سواحل إيران (الهولة)، وأخيراً المجنسين الجدد من كافة أصقاع الأرض وخاصة من ذوي الأصول القبلية سواء عرب كانوا أم أعاجم بحيث تسارعت وتيرة تجنيسهم في العقدين الأخيرين من الالفية لأسباب سياسية و أمنية كما سنتوسع في الشرح لها لاحقا.
هذه المكونات ظلت تتحرك عبر مصالحها ومخيالها الجمعي ولا شعورها وانتماءاتها ضمن دائرة الفرد والجماعة و الوطن. و تتأثر قوة انتمائها لإحدى الدوائر بمدى نجاعة برامج وسياسات وممارسات وعقليات الأفراد أصحاب القرار من الأسرة الحاكمة. وعبر التاريخ المعاصر للبحرين فإن الاصطفافات الطائفية أو الأثنية التي تعاظمت أشكالها بعد أن فقدت الطبيعة المتسامحة المدنية مع رسوخ الحكم القبلي، حيث كانت تقوى كلما كان التمييز والتهميش الممارس بحق طائفة أو جزء منها سارياً ومنفذاً على أرض الواقع، وخاصة مع تعاظم الثروات و تعقد التحالفات في ظل تشكل مراكز القوى الاجتماعية و الاقتصادية.
التشخيص وتحريك الدوائر:
فيما يلي من البحث فهو سرديات للوضع الذي كان سائداً كعلاقة بين مكونات المجتمع البحريني والدوائر الثلاث (الهويات الثلاث) ومحدداتها ومتغيراتها:
فمن المعروف أن جميع الأسر الحاكمة في دول مجلس التعاون الخليجي تمتد جذورها من القبائل العربية القادمة من شبه الجزيرة العربية، وكلها اعتنقت المذاهب السنية وبالأخص المالكية والحنبلية والوهابية.
ومن المعروف أيضاً بأن في هذه المجتمعات تتنوع المذاهب الإسلامية والأصول غير العربية المهاجرة والمستقرة والقادمة من الساحل الفارسي أو من الهند وبلوشستان وباكستان.
ومن المعروف كذلك بأن هناك أكثرية تعتنق المذهب الجعفري في البحرين، بينما تمثل الطائفة ذاتها أقلية في بقية الدول الخليجية.
وتمثل مملكة البحرين نموذجاً واضحاً في وجود هذا التنوع المذهبي والأثني من جهة، ونسبها بين الأكثرية النسبية كالطائفة الشيعية أمام أسرة مالكة من الطائفة السنية من جهة ثانية، رغم غياب إحصاءات دقيقة حول نسبة الطائفتين. ومن جهة ثالثة فإن في هذا المجتمع العربي يوجد مواطنون من أصول غير عربية كالهولة[1] والعجم [2]والهنود وغيرهم، وهم يمثلون أقليات منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولكن لا توجد إحصاءات دقيقة تكشف عن امتدادات هذه الأصول ونسبتها في الوقت الراهن، خاصة وإن هناك كثرة من العائلات الكبيرة المعروفة والتي تمكنت من تعليم أبنائها تعليماً عالياً إبان الخمسينات والستينات من القرن الماضي قد انقطع جذرها مع ذوبانهم الكامل في المجتمع بعد أن توسعوا وتقلدوا مناصب سياسية وتجارية واقتصادية وثقافية، وهي معظمها عوائل ذات أصول قادمة من ساحل فارس (الهولة)[3].
آليات التعامل مع الأكثرية والأقليات:
في ضوء المتقدم ذكره أعلاه، يتضح أن نموذج مملكة البحرين صالح لإبراز آليات تعامل الأسرة المالكة مع الطائفة الشيعية التي تمثل أكثرية نسبية، وما هي الاستراتيجيات المستخدمة لخلق (التوازن الطائفي!)، وفي المقابل هي نموذج أيضاً لإبراز آليات أخرى لتعامل الأسرة المالكة مع الأقليات من الأصول غير العربية (الهولة والعجم وغيرهم)، وما هي الاستراتيجيات المستخدمة للتعامل معها. وحيث أن المجال لا يسمح باستعراض العقلية والآليات التي استخدمت تاريخياً منذ استقرار الأسرة المالكة في البحرين وتقلدها الحكم، سواء مع الصراعات والولاءات الطائفية أو مع الأقليات غير العربية. لذا سيركز البحث على الخطوط العامة المعتمدة على المنهجيات التي استخدمت وهي:
- سياسات التجنيس السياسي لزيادة عدد الطائفة السنية وخلق التوازن الطائفي وذلك لمواجهة الأكثرية النسبية للطائفة الشيعية، والآثار السلبية المستقبلية المترتبة على هذه السياسة.
- سياسات تطويع (الموالي) إن جاز التعبيرـ المتمثلة في تبني معظم منهج الدولة الأموية في مواجهة الأعداد الكبيرة من غير العرب الداخلين في الإسلام، وبالأخص من الفرس والأتراك والتي أفرزت ما سمي في التاريخ العربي الإسلامي (بالموالين).
- العقلية القبلية المعتمدة على الثروة الريعية القادمة من أموال النفط وكيفية الاستفادة منها لخلق الولاءات والتوازنات والتحكم بالأقليات من جهة واخضاع الأكثرية من جهة أخرى.
التجنيس السياسي كآلية لخلق التوازن الطائفي:
منذ استقلال البحرين في السبعينات من القرن العشرين وفي ظل اعتماد السلطة السياسية على ثروة النفط كمصدر رئيسي للدخل القومي من جهة، و التوزيع حسب الولاءات والتعاضدات النابعة من طبيعة العلاقات القبلية من جهة ثانية، و باعتبار أن الدولة كانت مسؤولة عن توفير معظم الخدمات الإسكانية والتعليمية والصحية، إلى جانب الضمانات الأمنية والسياسية. استمر الحكم التحكم بمفاصل الدولة و بأقوى مما كان تحت مظلة المستعمر قبل تطور العلاقات السياسية بعد انتهاء اتفاقية الحماية الخاصة بين الاسرة الحاكمة والمستعمر البريطاني، وصدور أول دستور عقدي عام 1973م، فمن اشكال بسط الهيمنة الأمنية مع تشكل مناخ التشاركية السياسية المفترضة، فقد تم تقييد الحصول على الجنسية البحرينية مما أدى إلى بروز ما سميت بفئة (البدون) وهم المواطنون من مواليد البحرين أو الذين عاشوا فيها لسنوات طويلة امتدت أكثر من 25 سنة (الهولة) و (العجم)، وكذلك العرب الذين استقروا في البحرين أكثر من 15 سنة كالفلسطينيين أو العراقيين أو المصريين الذين استقروا منذ العشرينات من القرن الماضي وعملوا كمدرسين ومستشارين في تطوير التعليم العام والصحة والإدارة العامة في البحرين.
هذه الفئة (البدون) كانت تطالب بحقها في الجنسية وتجاهد بكافة الطرق بما فيها الطرق غير القانونية كالرشاوى والواسطات واستغلال النفوذ السياسي والاقتصادي، غير إنها بقيت فئة غير مستقرة بسبب عدم حصولها على الجنسية البحرينية و بما خلقت فجوة في تعزيز الانتماء الوطني والاستقرار النفسي والاقتصادي والسياسي من جهة، والدفع نحو الانزواء بعيدا عن الصراعات السياسية الدائرة في المجتمع من جهة أخرى، وذلك حفاظا على كينونة الاسرة و الجماعة من سطوة السلطات السياسية التي لم تتوانى من طرد كثيرين من هذه الفئة إبان صعود النشاط السياسي الشعبي في أعقاب انتصار الثورة الإيرانية في بداية الثمانينات من القرن الفائت.
ومع تقلد الملك حمد بن عيسى آل خليفة الحكم والتصويت على ميثاق العمل الوطني في 2001م وبداية الانفراج الأمني والسياسي، حيث تم إلغاء قانون ومحكمة أمن الدولة، والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين السياسيين، وتأسيس جمعيات سياسية بعضها كانت جبهات سياسية سرية معارضة تعمل منذ الخمسينات من القرن الماضي (جبهة التحرير الوطني كتيار شيوعي) وبعضها منذ الستينات والسبعينات (حركة القوميين العرب – الناصريين – الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي ومن بعدها الجبهة الشعبية في البحرين بعد الاستقلال التنظيمي لفروع الجبهة في الخليج العربي كتيار يساري قومي) و(حزب البعث العربي الاشتراكي).
والتحول النوعي الذي حصل هو قيام الحكم بفتح أبواب التجنيس للعرب من أصول قبلية سواء من المملكة العربية السعودية أو بعض القبائل العربية في سوريا والأردن واليمن ومصر، وكان هذا النوع من التجنيس هدفه خلق التوازن الطائفي في البلاد بين السنة والشيعة، حيث التركيز على تجنيس الأفراد من المذاهب السنية. هذا التحول النوعي تم تنفيذه على مستويين أمني و ديمغرافي، فالمستوى الأول ركز على تعزيز و تقوية الأجهزة الأمنية من فئات تتسم بالولاء القبلي، وأما المستوى الثاني هدف إلى التحكم بمخرجات العملية الانتخابية المرسومة وفق معادلة محكمة تضمن النتائج بحسب رغبات السلطة السياسية المتحكمة في مجمل المشهد السياسي بعد افراغ العملية السياسية ذاتها لغير مصلحة الدائرة الوطنية الجامعة.
إن هذه السياسة المستمرة لغاية الآن هي آلية تهدف إلى التعامل من قبل الأقلية النسبية المتمثلة بالحكم والطائفة السنية مع الأكثرية النسبية المتمثلة بالشيعة، وهي آلية وإن كانت غير مجدية وغير عملية، بل ولها أضرار كبيرة على البنية الاجتماعية والقيّمية بجانب المشاكل المترافقة معها الثقافية والسلوكية، إضافة إلى الأعباء الاقتصادية أمام ندرة الموارد وقلة مصادر الدخل واعتماد الميزانية بشكل كبير على ارتفاع أسعار النفط، هذه الآلية حققت نجاحات ملموسة لصالح الحكم حيث ساهمت أصوات هؤلاء المتجنسين في فوز العديد من النواب الموالين للحكم، وهو هدف أساسي للحكم للوصول إلى مجلس نيابي تكون الغالبية فيه لصالحه ولخلق “التوازن” الطائفي فيه.
احتمالية تكوين طائفة ثالثة:
إن احتمالية خلق طائفة جديدة اجتماعية في البحرين من جراء تنفيذ سياسة التجنيس الراهنة هي احتمالية واردة وهي من القضايا المرتبطة بالأبعاد التي تطرحها القوى السياسية المعارضة بما تم التعارف عليه بالتجنيس السياسي.
إن الإفرازات الاقتصادية والسكانية والخدماتية ( الإسكان ـ الصحة ـ التعليم ـ العمل) للتجنيس السياسي قد تكون محسوبة ومقاسة لدى الاقتصاديين والاجتماعيين المختصين في هذه المجالات، والتنبؤ بالمستقبل فيها من حيث تأثير هذه السياسة التجنيسية على الموارد المحدودة للبلاد قد يكون أيضاً قابلة للقياس والحساب.
غير أن افرازات كل هذه السياسات وعلى المدى البعيد في ظل عناصر التدمير الذاتي للاقتصاد و خاصة مع نضوب الموارد الاقتصادية، وبعد استقرار هذه الفئات المتجنسة خدمة لأهداف سياسية بعيدة عن حاجات المجتمع التنموية الحقيقية، وتوالي الأجيال جيل وراء جيل ضمن ثقافة وقيّم وانتماءات مزدوجة ما زالت بالمؤشرات الراهنة تتعزز في نسيج هذه الفئات الجديدة (المغتربة) عاكسة نفسها أيضاً على المجال السياسي و الحراك السياسي والتوازنات السياسية و بالتالي قوة مؤثرة على حسم الصراعات السياسية القادمة لغير صالح الدائرة الوطنية المنشودة.
وهناك مؤشرات اجتماعية وسلوكية تكشف عن تمركز هذه الفئات المجنسة في دوائرها الفرعية وذلك أمام صد كثرة من المواطنين لهم، وإن استمرار هذا التمركز قد يؤدي إلى بروز (طائفة) ثالثة وإن كانت غير مذهبية لكنها اجتماعية المحتوى.
الآلية المعاكسة للتعامل مع الأقليات:
السياسة المعاكسة التي مورست في مرحلة ما قبل الميثاق هي الموجهة للأقليات المتواجدة في البحرين من الهولة والعجم وغيرهم، وهي سياسة كانت هدفها عدم تمكين هذه الأقليات واستخدام التمييز بحقهم، وقد استمرت هذه السياسة منذ أوائل القرن الماضي وتم تقنينها بعد الاستقلال السياسي للبحرين في أوائل السبعينات من القرن العشرين، وتجلى التمييز في التعامل معها على صعيد الحقوق أو الامتيازات كما هو موضح في الأقسام التالية من هذا البحث.
الهولة والعجم:
وعلى صعيد الأدوار القديمة فمن المعروف أن الهولة المنحدرين من حيث أصولهم التاريخية من سواحل فارس ومن الطائفة السنية، وكذلك العجم المنحدرين تاريخياً من إيران الداخل والسواحل والأطراف ومن الطائفة الشيعية، قد كانوا عنصرا مهما في البنية الاقتصادية التحتية البدائية، وخاصة في مجالات التجارة والإنشاء والخدمات والصناعة وخاصة بعد الاكتشافات النفطية و تعقد البنى الفوقية مع تطور النظم الإدارية مطلع القرن الفائت. لقد ساهموا هؤلاء تاريخياً في الحقل السياسي النضالي والكفاحي من خلال انخراطهم في التنظيمات السياسية السرية منذ الخمسينات من القرن الماضي (فرع حزب توده الشيوعي الإيراني في البحرين وعلاقته ودوره في التأثير وتأسيس جبهة التحرير الوطني البحراني، أو انخراط الأجيال الشابة التي ولدت على هذه الجزيرة العربية في الحركات القومية العديدة التي تأسست واندمجت فيما بعد في إطار تنظيم واحد هو الجبهة الشعبية في البحرين بتحولاتها الفكرية وصولاً إلى تبني الفكر اليساري ذي العمق القومي، حيث كانت كوادر وقواعد هذه التنظيمات خليطاً من العرب السنة والشيعة والهولة والعجم)[4]. وهما ـ أي الهولة والعجم – قد كان لهما دور في الحقل السياسي الرسمي كوزراء ومسئولين، وكذلك في المجال الاقتصادي كرجال أعمال ومصرفيين، فضلاً عن أدوارهم الكبيرة والمعروفة على الصعيد الثقافي والأدبي والفكري. ولذلك فإن اندماجهم في العمل السياسي في البحرين لم يكن بالضرورة مرتبطاً بامتلاكهم الجنسية البحرينية، حيث أن انتماءهم الوطني لتراب هذا الوطن كان في معظم المحطات السياسية محسوماً، وقد تعامل الحكم معهم إما على أساس أنهم موالون لمواقفه لمن انحاز منهم أو معارضون له، ولذلك كان يتم اعتقالهم وتعذيبهم كمواطنين معارضين أو نفيهم للخارج تحت حجة أنهم من رعايا إيران أو من غير المرغوبين فيهم (هناك كثرة من الشخصيات الوطنية المناضلة من الهولة ذاقوا عذابات الاعتقال والتعذيب والنفي بل الاستشهاد كالشهيد محمد غلوم بوجيري، وذلك قبل مرحلة الانفراج الأمني والسياسي التي بدأت بتولي الملك حمد سدة الحكم في نهاية 1999م).
هؤلاء إذن ما تم تعريفهم (بالبدون) والذين كانوا يستحقون الجنسية البحرينية منذ أمد طويل، وإغلاق ملفهم ومطالبتهم بالجنسية لا يغير في المعادلة السياسية وكذلك في الاستحقاقات الاقتصادية وفي الهوية الشيء الكثير، حيث أن الأمر يتعلق بتعزيز الاعتراف بالانتماء الوطني الرسمي عبر امتلاكهم الوثيقة المطلوبة قانوناً ولكنهم في الواقع العملي كانوا منتمين ـ أو الأغلبية الساحقة منهم – لهذا الوطن.
المسألة المهمة في هذا المقام هي أن هذه الشريحة الاجتماعية الكبيرة في البلاد قد فرزت نفسها تاريخياً وراهناً وحسمت أمرها على صعيد مواقفها السياسية، إما طبقياً أو فكرياً أو أيديولوجياً أو طائفياً بمكوناتها السياسية، وأصبح الحكم وقوى المجتمع تمتلك مؤشرات بالنسبة لهذه الشريحة التي أصبحت مندمجة بشكل عضوي من الصعوبة تمييزها عن باقي الشرائح الاجتماعية العربية، وأصبحت بالتالي مرتبطة ضمن نسيج المكونات المجتمعية آنفة الذكر وتتحرك ضمن الدوائر الثلاث حسب المصالح وتفعيل المحددات والمنشطات الثلاثة.
صحيح أن الحكم قد تعامل معها بشكل تمييزي واضح في المراحل التاريخية السابقة منذ بداية تأسيس الإدارة العامة في البلاد من حيث نصيبهم في المناصب الرسمية أو غيرها من المتطلبات، وهو تمييز ناتج عن سمتين مرتبطتين عضوياً بالأنظمة العربية القبلية وتعاملها التاريخي منذ عصر الدولة الأموية التي تفاجأت بعد الفتوحات الإسلامية لفارس والإقليم المحيط بها غير العربي كتركيا وأفغانستان والهند بغلبة العنصر غير العربي على العربي القبلي ذي الأصل القادم من الجزيرة العربية، وخوفاً من هيمنة هذا العنصر على الدولة الإسلامية الفتية قامت الدولة الأموية بتقنين تقلد المناصب العامة ووضع شروط قاسية مما أدى إلى بروز شريحة اجتماعية ضخمة ممن تم تعريفــــهم ” بالموالي”.
التاريخ يعيد نفسه. الموالي في دول الخليج العربي[5]:
السياسات التي مورست في عهد الدولة الأموية تجاه المسلمين الجدد من الأصول غير العربية في عمومها كانت شبيهة بالتي مورست في دول الخليج العربية التي تحكمها القبائل العربية تجاه النازحين من الساحل الفارسي في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولذلك من المفيد استعراض تاريخ الموالي بشكل من التفصيل معتمدين على رؤية وفقرات من كتاب “نقد العقل السياسي” للمفكر العربي محمد عابد الجابري
لقد كان اسم “الموالي” يطلق في العصر الأموي على جميع الذين أسلموا من غير العرب، ولما كانت القبائل العربية قد تفرقت في البلدان كجند للفتح فإن ما بقي منها في المدينة و في الكوفة والبصرة كانوا إما مجندين أو “متقاعدين” في حكم المجندين، فكانوا يعيشون جميعاً في إطار “القبيلة” من الغنيمة عطاءً وخراجاً، وهكذا تضافر عنصر الثروة مع مخيال “القبيلة” ليكون الناتج سلوكاً أرستقراطياً – قبلياً قوامه النظر باستعلاء إلى هؤلاء “الموالي” الذين ((جاءهم العرب بالإسلام لينقذهم من الظلمات ويخرجهم إلى النور)).
ويؤكد الجابري بأن هؤلاء الموالي من الناحية العملية والشرعية كانوا أحراراً، ولكنهم من الناحية العملية الفعلية الواقعية، لم يكونوا يعتبرون في مرتبة واحدة مع العرب، لقد كان هناك تمييز اجتماعي وحواجز سياسية، لدرجة أن الجابري يشبه الوضع بالخدم في المنازل اليوم!! خاصة الخدم “الآسيويين” في الخليج.
- لقد كان رجال الأرستقراطية القبلية لا يزوجون بناتهم للموالي، تماماً كما يحدث اليوم وفي الألفية الثالثة !
- السلطة الأموية لم تكن تعينهم في مناصب القضاة – إلا نادراً – فما بالك في المناصب السياسية.
- سادت أنواع من السلوك الأرستقراطي الذي دفع بالموالي إلى مرتبة دنيا على مستوى المعاملات الاجتماعية، يكشف ابن عبد ربه في كتابه “العقد الفريد” ((إذا مرت جنازة قال: من هذا ؟ فإن قالوا: قرشي، قال: وا قوماه، وإذا قالوا: عربي، قال: وابلدتاه. وإذا قالوا: مولى، قال: هو مال الله يأخذ ما يشاء ويدع ما شاء[6]))
- كانت الأرستقراطية القبلية زمن الأمويين- كما هو شأنها دومــاً- ((تحتقر الصناعات والمهن اليدوية وتعدها من عمـــــل الموالي وحدهم. ))، (( نعم، إنهم يكسحون طرقنا ويخرزون خفاقنا ويحوكون ثيابنا[7])). وهو ما نشاهده في الأسواق الخليجية حيث هيمنة الهولة والعجم على المهن اليدوية كالخياطة والمخابز والبيع بالتجزئة، وذلك قبل إغراق السوق بالعمالة الأجنبية الوافدة من شرق آسيا، وقبل تأسيس القطاعات المصرفية والخدمية الجديدة.
- كانت القبائل العربية ترى بأن العلم والتفقه في الدين ليس مما يليق بالقرشي وهو من “أشراف” القبيلة، كانوا يقولون “ليس ينبغي لقرشي أن يستغرق في شيء من العلم إلا علم الأخبار”، أي أخبار العرب وأيامهم وحكاياتهم، وهذه السمة ما زالت منتشرة في صفوف العرب والمستعربين حيث يسيطر عليهم البحث عن جذورهم وأنسابهم لدرجة أن البعض يوصل جذره العائلي إلى النبي آدم!!.
- بينما كانت أرستقراطية “القبيلة” تعيش من “الغنيمة” وتجمع من الفيء والعطاء ثروات هائلة وتحيى حياة بذخ وترف، كان الموالي محرومين من أي نصيب في “الغنيمة” حتى ولو شاركوا في الفتح جنوداً، لقد كانوا يعيشون على العمل في المهن والبيوت والفلاحة والتعليم. (وهي نفس الحالة إبان الطفرة النفطية واستفادة القبائل العربية المتحالفة مع الأسر الحاكمة في الخليج وكذلك بعض العوائل الكبيرة من الريع النفطي – مع استثناءات لبعض العوائل الهولية والعجمية التي تعاونت مع هذه الأسر ومع الاستعمار البريطاني في القرنين الماضيين!!)
- ويبدو أن الموالي أدركوا منذ وقت مبكر أن المجال الوحيد الذي كان بإمكانهم أن يكسبوا منه مرتبة اجتماعية محترمة وبالتالي نوعاً خاصاً من “السلطة” هو ميدان “العلم”، وهكذا انكب كثير منهم على الفقه في الدين وجمع أخبار النبي وأحاديثه، ولم يمر وقت حتى أصبح هؤلاء بارزين في العلم خصوصاً بعد انقضاء جيل الصحابة. يذكر ياقوت الحموي في معجمه “إنه لما مات العبادلة: عبدالله بن عباس وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمرو بن العاص صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي[8]“واخذ يستعرض فقهاء مكة واليمن واليمامة والبصرة والكوفة والشام وخراسان فوجدهم جميعاً من الموالي، إلا المدينة التي كان ما يزال فيها فقيهاً عربيا ًوهو سعيد بن المسيب. وما حدث في ميدان الفقه حدث في ميدان اللغة والأخبار والمغازي والتاريخ حيث كان الموالي هم مبدعي هذه التخصصات.
- إن هذا التطور النوعي في صفوف الموالي رافقه تطور كمي هائل مما جعلهم يصبحون قوة اجتماعية تضايق الأرستقراطية القبلية وتهددها، لذلك فكر بعض الزعماء العرب كمعاوية بن أبي سفيان بقتل بعضهم حيث قال “إني رأيت هذه الحمراء (الموالي) قد كثرت وأراها قد طعنت على السلف، وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان فقد رأيت أن اقتل شطراً وأدع شطراً لإقامة الأسواق وعمارة الطريق” (ابن عبد ربه[9]).
- لقد شارك الموالي في جميع الثورات وحركات المعارضة في عهد الأمويين كحركة الخوارج وثورة ابن الأشعث، لذلك مارس الأمويون سياسة “ليبرالية” تجاههم خاصة لمن كان يعارضهم فقط بالقول دون حمل السلاح.
- أمام ازدياد دور الموالي في الحياة العامة واصلوا اختراق “القبيلة” إما بالتحالف والموالاة طلباً للمكانة الاجتماعية، أو بواسطة دورهم كـ”خبراء” في التجارة والصيرفة والأعمال الحرة، كما برز منهم نخبة في مجال الفكر والدين والسياسة، والتحق كثير منهم ببلاط الخليفة وحاشية الأمراء وسلك الموظفين، وحاولوا التأثير في سياسة الدولة.
- لقد أصبح بالتالي “انتلجنسيا” العصر آنذاك هم من الموالي الذين جعلوا من علم “الكلام” وسيلة لممارسة السياسة بواسطة “العقيدة” ضداً على ” القبيلة” وأيديولوجيتها، فقادوا بذلك حركة تنويرية عكست بوضوح ذلك الصراع الذي خاضته القوى الاجتماعية الصاعدة المضطهدة ولكن الطموحة والتي كانت تتألف أساساً من الموالي، حركة تنويرية استطاعت بالفعل أن تخترق سياج القبيلة وتؤثر في جانب من أرستقراطيتها وتستقطب بعض زعماء القبائل من داخل التحالف القبلي الأموي ذاته، بل إنها استطاعت أكثر من ذلك أن تفسح المجال لقيام تنظيمات ثورية بعضها فشلت وبعضها حققت نجاحاً، منها ذلك الفصيل الذي قاد باسم “العقيدة” ثورة عارمة على “القبيلة” ونظام حكمها: الثورة العباسية.
- ومع كل ذلك لا بد من القول إذا كان هذا المجال السياسي مجالاً مورس فيه نوع من الضغط السياسي فإنه لم يكن في يوم من الأيام مجالاً يصنع فيه القرار. لقد بقيت “القبيلة” وهي صاحبة “الأمر” والدولة طوال العصر كله، غير أن القبيلة في ذلك العصر كما في العصور الأخرى ليست سوى إطار تنظيمي و”طبيعي”
- لا يقوم بدوره كمحدد في الممارسة السياسية والعقل السياسي إلا بتحريك من “الغنيمة” وبحضور نوع من “العقيدة”!! (للمزيد من التعمق والتحليل أنظر: كتاب الجابري، العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، حيث تم اقتباس الفقرات السابقة منه وبتصرف)
ويتضح من هذا التشخيص المفصل للسياسة الأموية تجاه المسلمين من غير الأصول العربية بأن كثيراً من هذه الممارسات والسياسات قد مورست في دول الخليج العربية بحذافيرها!! تجاه الهولة والعجم.
فعلى الصعيد الثقافي والأدبي والفكري وكذلك على الصعيد التجاري والاقتصادي برزت هذه الفئة وأبدعت وكان تأثيرها ملموساً على أصحاب القرار الرسمي بجانب تأثيراتها على الصعيد الشعبي.
وضمن هذا السياق التاريخي كان الهولة ينتقلون في دوائر الهوية الجمعية للبحرين، فمنهم من ارتبط بالقبيلة ضمن الدائرة الثانية ومنهم من انخرط في الدائرة الوطنية مع القوى الوطنية التي كانت تناضل من أجل كسر وإضعاف الدائرة الثانية لصالح الدائرة الثالثة الوطنية وأحياناً كثيرة القومية.
المفهوم الريعي للمواطنة:
والسمة الثانية المرتبطة عضوياً بالحكم القبلي الخليجي هي العقلية المرتبطة بالاقتصاد الريعي (النفط) حيث يفترض أن تعيد الدولة الريعية توزيع الثروة الريعية على الأغلبية من السكان و الذي اتسم بانعدام التوازن العادل بسبب التفرقة في التوزيع كجزء من طبيعة النظام القبلي القائم على الولاءات وأحكام السيطرة على مصادر القوة من جهة، والتحكم في المجتمع غير المتجانس والمتنوع طائفياً وأثنياً بين أقلية موالية وأغلبية مهزومة، ونجد أن الفئة المحدودة من المجتمع تحصل بشكل مباشر على الثروة (الريع النفطي) وتصبح بالتالي هي الدولة والحكومة والمستفيد المباشر من هذا الريع، وهي القوة الاقتصادية التي ما تلبث وأن تتركز في يد القوة السياسية المسيطرة. وعليه تصبح هذه الدولة في وظيفتها الأساسية هو توزيع المزايا والمنافع على أفراد المجتمع بمقدار القرب والبعد من مسطرة الولاء للقوة السياسية المهيمنة، هذا الدور للدولة الريعية عكس نفسه على تشكيل علاقات المجتمع بحيث تم ترتيب هذه العلاقات على نحو يسمح للمصالح الخاصة والفئات الاجتماعية المختلفة بالحصول على أكبر قدر من إعادة توزيع الريع، الأمر الذي أدى إلى ظهور فكرة “المواطنة” لأبناء هذه الدول فقط كرعايا مرتبطين بعناصر الثروة ومصادر الكسب الاقتصادي المتحكم بها من قبل ولي الأمر على قاعدة الراعي و الرعية- العمود الاثير في بنية الحكم القبلي لهذه الدول- بدلاً من ارتباط فكرة المواطنة كما هي متعارف عليها في المجتمعات الغربية بالانتماء للوطن والعمل والإنتاج والكفاءة، لذلك تم تثبيت هذا المفهوم الريعي للمواطنة في قوانين الجنسية، وبرز ذلك الحرص الشديد على عدم التوسع في التجنيس وظهر التمييز بين فئات المواطنين، بين المواطنين الأصليين والمتجنسين، فكرة أو مفهوم المواطنة المشوهة هدفت بأن لا يتم توزيع الثروة الريعية على كل القطاعات الاجتماعية في المجتمع وإنما على الموالين للحكم والداعمين له، فتكونت علاقة مصلحية بين مالك الثروة وبين المستفيد من توزيع جزء من هذه الثروة عليها على شكل هبات أو مكرمات أو توزيع أراض شاسعة ومن ثم شرائها منهم بأسعار عالية أو ترسية المناقصات التجارية المرتبطة بالولاء أكثر من الجودة والكفاءة، كما يرى بشكل جلي في دول الخليج العربية، والبحرين خاصة نظرا للتركيبة السكانية المختلفة عن باقي الدولة الخليجية والمتمثلة في أغلبية غير مضمونة الولاء للسلطة السياسية المتنفذة. وهذا “خلاف الوظائف الحديثة للدولة التي يصب جهدها على الوظائف التي تؤديها لمواطنيها أو العمليات التي تنفذها لتحقيق الوظائف التي تلتزم بها أمام مواطنيها، وفي كلتا الحالتين تنتفي الحاجة إلى البحث في أصول الأشياء وأصول المواطنين والناس وينصب الجهد على وصف المشكلات القائمة ووضع التشخيص اللازم لعلاجها، وهكذا تستطيع الدولة الحديثة أن تتحرر وتحرر شعبها من عقد الماضي وأمراضه وأن تكرس جهدها لمشكلات الواقع المعاش[10]“
لقد تزامن مع الاقتصاد الريعي نمو القطاعات الإنتاجية التي في العموم لم تخرج من عباءة طبيعة اقتصاديات الريع والمتمثلة في الطفرات العمرانية باستغلال الاراضي والبحار في تخليق ثروات دون قيم اقتصادية مضافة من الريوع الناتجة عنها كما الريع الناتج من النفط، و كان هذا التقسيم الاقتصادي قد توافق مع تقسيم اجتماعي بين المواطنين والوافدين، حيث تركز الاقتصاد الريعي في أيدي ثلة من المواطنين بينما توزع المواطنين والوافدين على القطاعات الإنتاجية التي يغلب عليها الطابع الخدماتي بعد تراجع مشاريع الصناعات ذات القيم المضافة وبروز أسواق المضاربات مع طغيان قيم الارباح السريعة كإحدى سمات التطور في الاقتصاد الريعي تعويضا عن تقلص موارد الريع الكلاسيكية من ناحية، إن الطبيعة الخاصة للاقتصاد الريعي في دول الخليج أبرزت علاقات انتاجية مشوهة أسوئها التمييز و الفصل بين المواطن و الوافدين المهاجرين، ليس في الحقوق السياسية وحقوق المواطنة فحسب، بل في شبكة العلاقات الاجتماعية والنظرة الدونية للمهن اليدوية والإنتاجية بشكل عام، الأمر الذي أدى إلى عدم تهيئة الأجواء لقبول وانصهار الوافدين في المجتمع مهما كانت إقامته في هذه الدولة ما لم يؤمن ولاءه كجنود مدافعين عن السلطة السياسية عبر تبادل المنافع مع ابقاء كافة المحددات المانعة لتعزيز الدائرة الوطنية والانسانية المتسامحة.
إن تنوع وتعدد الثقافات والهويات في المجتمع الواحد ظاهرة إيجابية وحضارية وإنسانية شرط أن يكون هذا المجتمع قد حسم أمر الحقوق والحريات وتأسيس دولة القانون والمؤسسات والمشاركة السياسية وتنفيذ حقيقي لمبدأ المواطنة المتساوية وتداول السلطة ووجود سلطات تشريعية ورقابية وقضائية قوية ونزيهة ومستقلة، بحيث يتمكن المجتمع من امتصاص الأزمات والاحتقانات عبر مؤسسات ديمقراطية وقضائية بدلاً من تحصين كل طائفة وجالية وأقلية نفسها واعتماد أبنائها على التعاضد والتعصب الداخلي لهذه الطائفة أو تلك.
وبدون هذه المقومات الأساسية وغير المتوافرة في البلاد لغاية تاريخه فإن استمرار سياسة التجنيس الراهنة والتمييز وضعف مبدأ المواطنة سوف تخلق طوائف من الأثنيات والأقليات المغلقة والمتصادمة مع ما هو مستقر اجتماعياً منذ القدم، بل وقد تحاول أن تفرض أجندتها الخاصة السياسية، في ظل مجتمع هش ريعي الاقتصاد، وقبلي الإدارة وتجميد للعديد من المقومات الديمقراطية والحقوقية والمواطنية والسياسية والقضائية والمدنية.
[1] الهولة: هم من الأصول الفارسية الذين هاجروا ونزحوا إلى الدول العربية الخليجية وكلهم يعتنقون المذاهب السنية، ومعظمهم ينحدرون من القبائل العربية التي هاجرت منذ قرون من اليمن وشبه الجزيرة العربية إلى ساحل فارس، للمزيد أنظر كتاب: محمد غانم الرميحي، البحرين مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي، دار الجديد، بيروت-لبنان، ط4، 1995، ص 60، وكتاب: باقر سلمان النجار، الديمقراطية العصية في الخليج العربي، دار الساقي: بيروت-لبنان، ط1، 2008، ص87-108. (رغم أن معد هذه الورقة غير متيقن من هذا التعريف)
[2] العجم: هم من الأصول الفارسية هاجروا ونزحوا واستقروا في الدول العربية الخليجية وكلهم يعتنقون المذهب الجعفري، وهم من عمق إيران ومن القرى المحيطة بالخليج العربي، للمزيد أنظر كتاب فؤاد اسحاق الخوري، القبيلة والدولة في البحرين: تطور نظام السلطة وممارستها، معهد الانماء العربي: بيروت-لبنان، 1983، ط1، ص 107-129.
[3] الهولة: ضمن التفسيرات العديدة لمعنى (الهولة) استقر معظم الباحثين على أن الكلمة قد حرفت من (الحولة) إلى (الهولة) وهي تعني المجموعات العربية التي هاجرت وتحولت من العربية إلى الفارسية وارتبطت بساحل فارس بعد أن كانت قبائل عربية، علماً بأن جزءاً كبيراً من هؤلاء ما زالوا يستخدمون اللغة العربية كلغة رئيسية وبعضها تم التمازج بين اللغة العربية واللهجات الفارسية السواحلية، للمزيد أنظر كتاب: محمد غانم الرميحي، البحرين مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي، دار الجديد، بيروت-لبنان، ط4، 1995، ص 60، وكتاب: باقر سلمان النجار، الديمقراطية العصية في الخليج العربي، دار الساقي: بيروت-لبنان، ط1، 2008، ص87-108.(نفس الملاحظة في الهامش (1))
[4] فلاح المديرس، الحركات والجماعات السياسية في البحرين 1938-2002، (دار الكنوز الأدبية، ط1، 2001، بيروت، ص 41-73 بتصرف).
[5] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، نقد العقل العربي، الجزء الثالث (مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، فبراير 1990، بيروت، ص10 – 16 بتصرف)
[6] محمد عابد الجابري: المصدر السابق.
[7] محمد عابد الجابري: المصدر السابق.
[8] محمد عابد الجابري: المصدر السابق
[9] محمد عابد الجابري: المصدر السابق.
[10] محمد جواد رضا: صراع الدولة والقبيلة في الخليج العربي، أزمات التنمية وتنمية الأزمات، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992، وعبدالله جناحي: الاقتصاد الريعي ومقومات الدولة الديمقراطية، جمعية الاقتصاديين البحرينية، سلسلة أوراق اقتصادية، العدد (8)، الطبعة الأولى، 2003م، البحرين.