في القومية والعروبة

منتدى عبدالرحمن النعيمي الفكري ـ بيروت

19 ديسمبر  2014

وليد محمد علي 

بداية أنا ممن يرون؛ إن القومية هي رابطة عاطفية لجماعة تتبادل الشعور بالانتماء لإثنية ولغة واحدة، ولجغرافيا وتاريخ واحد، وحضارة مشتركة، مع ترابط في المصالح  والطموحات.

الانتماء لقومية معينة ليس شأناً عقدياً أو فكرياً ولا أيديولوجياً؛ بل ثابتة اجتماعية ونفسيه لها جذور ضاربة في التاريخ. والقومية شأنها شأن كلّ الحالات الإنسانية، حالة طبيعية وواقعة تاريخية  تتمدّد وتنكمش وفقاً لحالتها من حيث القوة والضعف  في مواجهة التحديات الخارجية. كما أنها ارتباط طبيعي محايد لا فكاك منه مثل ارتباط أيّ منّا بأسرته وعائلته ومسقط رأسه. لكن القومية تسعى إلى فكر تتمظهر أو تتجسد  فيه.

في العروبة

إن العرب كقوم كانوا موجودين كـ “قبائل” قبل آلاف السنين ليس في شبه جزيرة العرب واليمن فحسب، بل وفي أماكن أخرى لم تفصلها عن جزيرة العرب موانع عصّية على وسائل المواصلات التي كانت معروفه في ذلك الزمان.

لهذه الأسباب ولغيرها، فإن أبناء القبائل العربية المختلفة والمتناحرة كانوا دوماً يحسّون إحساساً فريداً، بأن هناك ما يجمعهم، ويدفعهم للاعتزاز بلغتهم “لغة الضادّ”. إلا أن ذلك لم يتّضح ولم تتبلور ملامحه كاتجاه سياسي إلا في القرن العشرين.

فقد بات في حكم الثابت تاريخياً أن النظام الاجتماعي الذي كان سائداً عند العرب حتى ظهور الإسلام، وتسيّده في المنطقة، لم يتجاوز “الحالة القبلية”. هذه القبائل المشتّتة والمتناحرة لم تتوحّد، إلاّ عن طريق الإسلام الذي ألّف بينها ووحّد كلمتها، ووصلها بشعوب وقبائل أخرى بعضها دخل في الإسلام، وبعضها بقى متمسكاً بمعتقداته، ولكن الجميع اندمج في إطار الوعاء الثقافي الجديد. وخروج العرب عن طريق الإسلام، من دائرة العنصر القبلي ومن حدود الجغرافية الضيّقة إلى دائرة تتسع في تعريفها لتشمل كلّ من اندمج في الحضارة والثقافة الإسلامية، أسّس لما يمكن أن نطلق عليه “العروبة الحضارية”، حتى بات بإمكاننا أن نسمّى كل من اندمج في الثقافة العربية، بغض النظر عن أصوله العرقية ب”العروبي”.

لكن، ورغم ذلك، وما يُقال عن تجربة “محمد علي”، إلاّ أن الوعي  القومي العربي الخاص لم يتبلور إلاّ مع بروز النزعة القومية العربية أواخر القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، في مواجهة النزعة  الطورانية وحملة التتريك  التي برزت في تلك المرحلة،  خاصة بعد تولّي حزب الاتحاد والترقي السلطة،  وموجة العنصرية والاضطهاد للعناصر غير التركية، وتحديداً العربية منها.

وقد ترافق ذلك مع بداية انتشار أفكار النهضة الأوروبية في أوساط  النخب العربية المتعلمة في الغرب، وفي منظومة البعثات التعليمية والتبشيرية الغربية، وما اكتسبته من أفكار كانت سائدة في أوروبا حول القوميات وقيام الدول القومية الموحّدة ، كمدخل حتمي ووحيد لدخول  عصر الحداثة.

تلك البدايات كانت واضحة المعالم قبيل الحرب العالمية الأولى، وكان التعبير عنها في تحالف الشريف حسين وعرب المشرق في مواجهة الإمبراطورية العثمانية، على قاعدة إن هزيمة الأتراك ستؤدّي إلى الحصول على الاستقلال وإقامة دولة عربية موحّدة، أقلّه في المشرق العربي. ولكن العرب حصدوا في النهاية اتفاقية سايكس بيكو ، ووعد بلفور المشؤوم.

ومنذ ذلك التاريخ وجد العرب كينونتهم في قلب دوّامة ثالوث معادٍ (تخلف، تجزئة وتهويد) ولا زال العرب في قلب هذه الدوامة إلى أيامنا هذه.

لمواجهة تلك التحديات برزت عدّة اتجاهات فكرية: ليبرالية، يسارية  وإسلامية:

– الاتجاه الليبرالي: انتشر في المنطقة العربية عبر الإرساليات والبعثات التعليمية، وكتب وأبحاث المستشرقين. وكان الفكر الليبرالي، بالنسبة لمنظّري الحركة القومية العربية الأوائل فكراً يُحتذى به، على أساس أن لا بديل عنه، فهو الذي أسّس الدول القومية في أوروبا ونشر العقلانية عبر مبادئه العلمانية التي تصدّت  لسلطة الكنيسة وأقامت  دولها بعيداً عن تأثير رجال الدين “فما لله لله وما لقيصر لقيصر”.

– الاتجاه اليساري: رغم أن الأفكار اليسارية بدأت في الانتشار في البيئة العربية بعيد الثورة البلشفية، إلاّ أنها توسعت، في حقبة الستينيات والسبعينيات على إثر انتصار العديد من ثورات اليسار في العديد من الدول، وكذلك وقوف الاتحاد السوفياتي في مواجهة الغرب الإمبريالي وإلى جانب العرب في صراعهم  ضد الكيان الصهيوني والإستعمار الغربي.

– الاتجاه الإسلامي: مع أن هذا الفكر متّسق أكثر مع فطرة جماهير الأمة وخلفيتها  التاريخية  والحضارية.  لكن ما كبح تمدد هذا هو سيطرة مجموعة من رجال  الدين الذين نستطيع  أن نطلق عليهم  دون تردّد،  وعّاظ السلاطين، الذين كان همّهم تفسير النصّ القرآني (وهو حمّال أوجه  كما قال الإمام علي-ع-) وتأويله بما يخدم الحاكم أي أنهم دمجوا بين ما هو بشري وما هو  إلهي  فيما يعود إلى مسألة السلطة، فأصبحت سلطة الحاكم وكأنها مستمدّة من سلطة الحق الإلهي، كلّ هذا توازى مع غياب أيّ محاولة اجتهاد أو تجديد  في التفسير والتأويل للنص القرآني ، فاقترن الفكر الديني حينها في أذهان النخب بالجمود والرجعية،  وعدم القدرة على مواكبة ما هو جديد، ناهيك عن  القدرة على اختراق الواقع وتحقيق الحداثة (انا لا أتحدث هنا عن الأحزاب والتشكيلات التي تأسست رافعة لواء إعادة بناء الخلافة الإسلامية).

وعليه فإن ضعف هذه التيارات وفشلها في التصدي للتحديات التي كانت ولا زالت تواجه الأمّة، يعود على ما أرى إلى أن هذه الاتجاهات الفكرية كانت قد نشأت كتيّارات مأزومه بسبب اغترابها المكاني أو الزماني، الأمر الذي أدى إلى بروز تيار اتجاه تبعيضي: تمثل بتجربة جمال عبد الناصر، وما عرف بالتيار الناصري، وهو  تيّار كانت ولا زالت شعبية كاسحة، إلاّ أنه عجز عن بناء صيغ تنظيمية ناجعة. تيّار استند إلى شخصية “ناصر” الكاريزمية، وإلى الالتفاف الشعبي الكاسح حول هذه الشخصية.

جمال عبد الناصر رفض أن تكون له فلسفة خاصة، وهو من قال مخاطباً مجلس قيادة الثورة “على بن أبي طالب مثلي الأعلى، وأنا أكثركم يسارية”. وكما كان يصرّ على رفض كل جمود فكري، كان يُصر على أن تبقى الصيغة تنظيمية، صيغة متطورة لتبق وتستمر كأداة لتحقيق أهداف الأمة، ولا تتحوّل إلى هدف بحد ذاتها، فكانت هيئة التحرير، الإتحاد القومي، الإتحاد الاشتراكي، ثم التنظيم الطليعي. لكن هذا المسار وهذه المحاولة قطعت بالقوّة العسكرية                      الصهيوإستعمارية، في العام 1967.

في مستقبل العروبة

رغم وجاهة الرأي الذي يقول إن “العرب” فشلوا حتى الأن في مواجهة الثالوث المعادي “التخلف، التجزئة والتهويد”، إلا أنهم ورغم ما تعرضوا له على امتداد مائة وأربع وثمانين عاماً، منذ بدء الغزو الاستعماري لبلادهم، مروراً بسايكس بيكو، وصولاً إلى وعد بلفور وزراعة الغدة السرطانية الصهيونية في أرض فلسطين.

إلا أن الوقائع أكدت أن هناك قوة كامنة في أعماق الشخصية العربية، مستمدة من حضارة ثرية يحتضنها وعاء لغوي ثابت وعميق وهي قوة مكنت هذه الأمة من استيلاد ردها على التحدي عبر ممانعة ومقاومة ممتدة، على مدى زمن ذلك التحدي، فتمكنت من تحرير الكثير من بقاعها من براثن الاستعمار المباشر.

وباتت الأمة اليوم على مشارف تحقيق انتصارها الحاسم، بعد أن تمكنت مقاومتها البطولية في فلسطين ولبنان والعراق، من توجيه ضربات قاسمة للعدو الصهيوأمريكي، فلم تعد الإدارة الأمريكية تجرؤ على إنزال جنودها في ميادين الحرب، كما بات الجيش الصهيوني (الذي خاله البعض لا يقهر) عاجزاً عن تحقيق أي انتصار، ولم يعد الكيان الصهيوني قادر على القيام بدوره الوظيفي كرأس رمح قوي وصلب للمشروع الاستعماري في بلادنا. كما لم تعد الولايات المتحدة متفردة في قيادة العالم.

ولكن وبسبب عدم اكتمال متطلبات بناء مشروعها النهضوي التحرري، وخضوع الكثير من أقطار الأمة للاستعمار الجديد، ووجود من إستمرؤوا التبعية للغرب الاستعماري. تمكن الأعداء مؤخراً من تفجير صراع داخل الأمة بين قوى المقاومة الساعية للتحرير الناجز والاستقلال الكامل والسيادة، وقوى التبعية والتخلف والانحطاط.

أمام هذا الواقع نرى ضرورة السعي للمصالحة الشاملة داخل الأمّة، وداخل كلّ قُطر على حده (فالوحدة الوطنية خطوة هامة على طريق توحيد الأمّة). مصالحة تترافق مع:

إجراء مراجعة نقدية شاملة، لا تشمل المؤسسات الرسمية فحسب، بل مجمل الأطر الشعبية؛ الثقافية، الاجتماعية، النقابية والمهنية، مترابطة مع مراجعة فكرية عميقة ترتكز على:

  • إن عروبتنا هي عروبة حضارية طاردة لكل تعصب عنصري أو انغلاق أنساني، وهي انتماء وهوية لكل المتحدثين بالعربية وتشكل الوعاء الأول لتفكيرهم وإبداعهم. يعتزون بها ويحملون أهدافها وطموحات أبنائها.

– العروبة هي تعبير عن الانتماء إلى جماعة | أمة محددة، لديها خصائص وخصوصيات تختلف فيها مع جماعات \أمم أخرى، لكنها تتقاطع في خصائص ومصالح مع جماعات أخرى وتحديداً  في الدوائر اللصيقة بها كالدائرة الإسلامية، والدائرة الأفروأسيوية، ثم دائرة دول الجنوب (دول عدم الانحياز) كما تمتد إلى دول عظمى و قوى صاعدة تتناقض مصالحها مع أطماع قوى الاستكبار العالمي.

– العروبيون هم من يجمعون بين اللغة العربية ومضمونها الثقافي والحضاري والتسليم بالانتماء لجماعة \ أمة واحدة.

– التزامنا بحضارتنا وقيمنا الإسلامية أساس، فالإسلام هو الوعاء الحضاري للجميع مسلمين ومسيحيين وسواهم من أبناء العروبة؛ للمسلمين منهم عقيدة، حضارة، ثقافة وقيم. وللمسيحيين وسواهم من العرب حضارة،  ثقافة وقيم أيضاً.

يقول الشاعر الماروني رشيد خوري:

شغلت قلبي بحب المصطفى .. وغدت عروبي مثلي الأعلى وإيماني

ويقول أمين نخلة: يا محمّد يميناً  بديني  ودين ابن مريم  وبخشبات صليبه إننا في هذا الحيّ من العرب نتطلّع إليك فعقولنا في الإنجيل وعيوننا  في القرآن.

–  حضارتنا لا تعرف الانغلاق على الذات، ولا تجد كينونتها إلاّ بالتفاعل مع الآخر.

– الاقتناع الراسخ بأن تخلّف الأمة أمرٌ طارئ وغير طبيعي، وأن تمسكنا بانتمائنا، وتمثّلنا لحضارتنا، سيمكّننا من تجاوز العقبات واسترداد مكاننا الطبيعي تحت شمس الحرية والعزّة والكرامة.

– مشروع النهضة هو مشروع الجماهير، صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير والنهضة والتقّدم.

– الفصل بين المؤسسات، التشريعية والتنفيذية والقضائية، والإقرار بالحّريات الأساسية، الأمر الذي يفسح المجال أمام الطاقات المبدعة، ويفجّر الإبداع المتجّدد، ويسهم في كسر حلقة التخلف التي نعيش داخلها منذ عقود.

– عودة الأوطان إلى أبنائها (مواطنين لا رعايا) ليعود أبناؤها إليها. فأمّتنا نتيجة لدوّامة التخلف والتجزئة والصهينة، أصبحت أمّة طاردة لأبنائها الذين أصبحوا يغادرونها مضطرين بحثاً عن العلم والعمل ووهم “الحّرية ” في انحاء المعمورة.

– إعطاء الاهتمام لمراكز البحوث والدراسات، التي تمكّن العلماء والخبراء من العمل في تخصصاتهم، والإسهام في تطوير مجتمعاتهم .

– تأسيس الحركات والتشكيلات والهيئات كأدوات ووسائل لتحقيق أهداف الأمّة لا أهداف بحدّ ذاتها.

– الالتزام بفطرية الاختلاف، والتعّددية كمدخل طبيعي لإبداع الوسائل التي تمكّننا من توحيد الطاقات والجهود لمواجهة التحديات وصناعة المستقبل.

– العلاقة بين الوحدة والتحرير والتقّدم هي علاقة تساوقيه.

وختاماً، إن القبول بالوضع الراهن للأمّة لا يعني سوى هدر المزيد من الفرص الممكنة لوقف التدهور الشامل وتسهيل مهمة العدوّ الصهيوإستعماري في تكريس هيمنته وسيطرته. فأيّ كيان من كيانات الأمة لن يستطيع تأمين الأمن الغذائي (أضعف الإيمان) لمواطنيه من دون الاستيراد والاعتماد على الخارج. وهذا لا يضمن استمراره إلاّ ضمن آليات التبعية والاحتواء والإفقار التدريجي.

ولا خيار لنا إلا خيار التنمية التكاملية التي تشكّل الأساس المادي والثقافي وليس التكامل الاقتصادي فحسب، بل والتعاون السياسي وصولاً إلى السوق المشتركة التي تشكل مفصلاً هاماً من مفاصل الوحدة.

إن التنمية التكاملية القائمة على الإنتاجية المتولدة من الاستثمار الداخلي (العربي العربي) يجب أن تشمل (الغذاء، الماء، النفط، التصنيع ووحدة التداول النقدية … ويجب ألاّ يُستثني من هذه الأبعاد البعد الثقافي للتنمية.

إننا نرى في ذلك مساهمة أساسية في تجاوز حالة اللامبالاة والإحباط التي تعانيها الجماهير العربية، من جرّاء التراجعات الخطيرة التي أصابت المشروع النهضوي للأّمة، وفي السياق تكون هزيمة الحركات الإرهابية (ذراع قوى التبعية) في المعركة التي تخوضها لمصلحة معسكر الأعداء الصهيوأمريكي، والبناء مجدداً على الإنتصارات التي حققنها قوى وحركات المقاومة في العقود الأخيرة .