مقاربة حول التشكل القومي العربي وآفاقه

د.موفق محادين – رئيس رابطة الكتّاب الأردنيين

تقديم

لا يزال الجذر التاريخي لمفهوم العربي، جذراً ملتبساً بين العربي والأعرابي. وحيث ترد بعض الدراسات العربي إلى سكان الحضر، والأعرابي إلى سكان البوادي (خليل عبد الكريم، الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية) فإن دراسات أخرى (عادل مريخ ، العربية القديمة ولهجاتها) تذهب إلى أن المساند أطلقت على البدو كلمة (أعرب) (أعرب ملك حضرموت) (أعرب ملك سبأ) (أعرب ذا طودم) أي أعراب الجبال.

ونرى أن كلمة عرب تعني البدو أو الأعراب في المساند، أما القبائل المستقرة والمتحضرة التي فيها الملك والرياسة فإنها تعرف بأسمائها مثل حمير .

وقد تفرعت هذه القبائل الكبيرة إلى فروع كثيرة وسكنت البادية وحملت هذا الاسم (أعرب) أي أعراب أو بدو، ولما كان الغالب على بلاد العرب البداوة، فقد غلبت هذه التسمية على جميع قبائل العرب، التي تنحدر من أصل واحد وأصبحت لفظة عرب تدل أو تعطي معنى القومية كوصف شامل لجميع العرب، وأصبحت هذه الكلمة اللفظ الاصطلاحي الذي يدل على سكان الجزيرة العربية. وقد فهم هذا الفهم الرومان والإغريق وغيرهم من الشعوب التي تعاملت مع ممالك الجنوب ووصفت تلك الممالك بالعربية السعيدة إذ غلبت الوصف العام الذي يسود جزيرة العرب.

كما أن كلمة (عربية) تنطق في المهرية (عربيت) كما نطقها الملك الحميري.

لكن هذه الكلمة صارت تعني فيما بعد الأقوام التي تتكلم العربية، واختلف علماء اللغة في تحديد تاريخ بروز تلك الكلمة ومعناها الذي تدل عليه.

وتتبَّع المستشرقون أصل الكلمة وتاريخها، ورصدوا معناها في الكتابات القديمة، ووجدوا أن أقدم نص وردت فيه كلمة “عرب” نص آشوري يعود إلى أيام الملك “شلمنصر الثاني” ملك آشور، وتبين أنَّ هذه الكلمة تعني عند الآشوريين مشيخةً كانت تحكم في البادية المتاخمة للحدود الآشوريَّة، أما في الكتابات البابليَّة فقد وردت عبارة “ماتو أربي” ومعنى “ماتو” في البابلية: أرض، فيكون معنى العبارة “أرض العرب”، وتدلُّ لفظة عرب في العبرية على البداوة، فيكون معناها: البدو، أو الأعراب، أو سكان البادية، ولم ترد اسم علم في التوراة إلا في زمن “أرميا”، ففي سِفر أرميا: “وكل ملوك العرب” وجعلت الأسفار القديمة من التوراة كلمة “عربي” مرادفاً لكلمة “إسماعيلي” نسبة إلى النَّبيِّ إسماعيل بن إبراهيم. أما أول من ذكر العرب في آداب اليونان فهو “أسكيلوس 525 ـ 456ق.م” وذلك في حديثه عن ضابطٍ عربيٍّ في جيش “إحشويرش”، ثم تلاه “هيرودتس 484 ـ 425ق.م” وقصد من كلمة “أربي” شبه الجزيرة العربيَّة كلَّها، وأدخل فيها جزءاً من الأراضي المصرية التي تقع شرقيَّ وادي النيل، وأبرز من أفاض في تاريخ العرب من اليونان المؤرخون “استرابون” و”بلينيوس” و”بطلميوس”.

بلاد العرب

تشير كتب التاريخ والآثار المكتشفة إلى أنَّ العرب سكنوا اليمن وبلاد الحجاز وتهامة ونجداً ثم انتشروا في الشام وبلاد الرافدين ومصر وسائر إفريقيا، وتدلُّ على ذلك الآثار، كالنقوش الحِمْيَريَّة بالخطِّ المسند، والنقوش الآراميَّة بالخط النبطي، وهذه النُّقوش وُجِدَتْ في اليمـن وفي شماليّ جزيرة العرب حيث سكن الأنباط، وهذا ما دلت عليه أيضا آثار بابل وآشور ومصر وفينيقيا، فوُجِدَت في بابل نقوشٌ بالخط المسماريِّ تدلُّ على العمالقة العرب البائدة، ودلت النُّقوش التي وُجِدَتْ في آشور وبابل على قيام دولة حمورابي العربيَّة.

أما جغرافيَّة بلاد العرب ومساحتُها على النَّحو الذي كانت عليه قبل الإسلام فلم تُحدَّد على نحو دقيق، ولكن بات من المعروف أنَّ القسم الأكبر من تلك البلاد التي هي شبه جزيرة العرب كان يحيط بها البحر الأحمر من الغرب، وبحر عُمان والخليج العربي من الشرق، والمحيط الهندي من الجنوب، وتتصل من أقصى غربها وشرقها بإفريقيا وآسيا، أما حدُّها الشمالي فهو غير واضح، يمتدُّ تقريباً من الخط المار بساحل البحر المتوسط في بلاد الشَّام، وينتهي بخليج العرب.

وتضمُّ بلاد العرب أقساماً كبرى في ثلاث مناطق هي: شـبه الجزيرة العربيَّة، وشـمالي إفريقيا، والهلال الخصيب الذي يشمل (العراق، والأردن، ولبنان، وسورية، وفلسطين).

 اللغة العربية وجذورها

حكم الباحثون بالقرابة بين مجموعة من اللغات العربية والعبرية والآرامية والبابلية والفينيقية من خلال التشابه في كثير من الأساليب والألفاظ وظلت هي الأحدث بين جميع الساميات.

ومن ذلك مثلاً: رسالة الرسول محمد إلى وائل بن حجر ونصها الآتي: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الأقبال الباهلة الأرواع المشايب في التيعة شاة لا مقورة الألياط، ولا ضناك وانطو الثبجة وفي السيوب الخمس، ومن زنى من بكر فاصقعوه مئة واستوقصوه ومن زنى مم ثيب فضرجوه بالأضاميم ولا توصيم في دين الله ولا غمة في فرائض الله كل مسكر حرام ووائل ابن حجر يترفل على الأقيال).

وكذلك الحديث الشهير الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلهجة حمير (ليس من أمير امصيام في امسفر) وهذه بعض الأحاديث التي خاطب بها رسول الله بعض قبائل العرب بلهجاتهم الخاصة بهم.

ولذلك اتفق الباحثون على أن العربية التي نطقها الآن والتي تدين ببقائها كما هي منذ ألف وأربعمائة عام للقرآن الكريم ما هي إلا عربية متطورة عن عربية أقدم منها، ألا وهي عربية الجنوب.

فاللهجات العربية القديمة. لهجات جنوبية أو أحقافية (رمل بين عُمان وحضرموت) وهي جبالية ومهرية الجبالية هي اللهجة التي يتكلمها سكان محافظة (ظفار) جنوبي سلطنة عُمان والتي تنتشر على وجه الخصوص على سفوح هضبة الأحقفا.

وتحتوي الجبالية على تسعة وعشرين حرفاً كما هو الحال في اللغة الفصحى إلا أنها لا زالت تحتفظ بأساليب بدائية أو قديمة لنطق بعض الأحرف مثل الشين المدموجة والزاء المفخمة الثقيلة واللام المفخمة الثقيلة والميم الأنفية المدغمة والنون الأنفية المدغمة.

أما “المهرية” فهي اللهجة التي تنتشر في منطقة مهرة شرقي اليمن وتحدها محافظة ظفار العمانية من ناحية الشرق وحضرموت من ناحية الغرب.

وهذه اللهجة أقرب ما تكون إلى لغات النقوش. وقد وصفها أحد المستشرقين بأنها بنت “السبئية” وهذا ما أورده [د. مراد كامل] في كتابه اللهجات الحديثة في اليمن وقد أورد كذلك آراء بعض المستشرقين في الجبالية إذ عدها بعضهم من بقايا الحميرية القديمة.

وتعود تسمية المهربة إلى متكلميها من قبائل المهرة وهم ينحدرون من مهري بن حيدان بن عمرو بن قضاة وإليهم تنسب نجائب الإبل.

من جهة أخرى، وفيما يخص العلاقة بين اللغة والأحرف فإن أقدم الكتابات العربية تعود إلى الجنوب (الخط المسندي) الذي انتقل إلى الجماعات الصحراوية الشمالية (ثمود – ديدان – اللحيانية والصفائية).

وقد شهد الألف الثاني للميلاد الكتابات الشمالية (الأبجدية المسمارية الأوغار يتيه (على الساحل السوري) ثم الأرامية حيث لعب الأنباط كما يبدو دوراً في تطويرها إلى العربية الحالية التي تنسب إلى قريش. ومن النقوش النبطية التي تؤشر على ذلك نقش نمارة (جبل العرب) ونقش عبادة (جنوب بلاد الشام).

مقاربة فكرية حول الحالة العربية

باستثناء الشيوعيين العرب “الأحزاب الشيوعية العربية الذين تبنوا بعض المتفاوتات، القراءات الستالينية والتعديلات اللينينية، فلا يزال مفهوم الأمة موضع التباس وخلافات كثيرة..

          فثمة من اعتبرها ظاهرة ثقافية لغوية “ألحصري” وظاهرة نفسية – لغوية كامنة على غرار باور “الارسوزي وأبن باديس” وظاهرة سياسية “البيطار” و “جعيط” واحتمال تاريخي “سمير أمين”([1]).

          وظاهرة محاكاة غربية “شرابي”([2])  و “طرابيشي”([3]) في معرض مقارنته بين الحماس الفرنسي للقومية العربية مطلع القرن وبين حرص مندوبي المؤتمر العربي الأول في باريس 1913، على البقاء ضمن الدولة العثمانية على أساس الحقوق الثقافية وهناك من أعتبرها ظاهرة دينية، أو قومية، دينية “الأخوان المسلمون”.

وهناك من ربطها بفكرة الإقليم والحق الطبيعي كما وردت عند باكونين مثل بطرس البستاني وأنطوان سعادة من القوميين السوريين، وجواد بولس من “القوميين اللبنانيين” ولعل الطهطاوي في مصر كان قريباً لهذا التصور أيضاً، ومثله أبن بأديس في الجزائر([4]).

ويذكر أيضاً، أن معنى الأمة ورد في القرآن 44 مرة بأكثر من معنى “الدين – الزمن – الأمام”([5]) أما هذه الدراسة، فتستند إلى منهج مركب يعيد إنتاج هذا المفهوم وفق الشروط التاريخية للحالة العربية، أي شروط الجغرافيا السياسية للمركز القومي التاريخي ودورها في استكمال الأمة لنفسها ضمن هذه الشروط.

وما تتضمنه من أبعاد لغوية وتاريخية وجغرافية (الأرض) ودور العامل الإقتصادي ضمن الخصوصية العربية

-1- فاللغة هنا بنية اجتماعية – ثقافية مركب بالمعنى السوسيري (اللسان كمنظومة اجتماعية جمعية والكلام كتعيينات فردية) وهو ما يحيل أيضاً إلى عبد القاهر الجرجاني ومساهمته حول اللفظ والمعنى والمبنى ولعل الأرسوزي في حديثه عن البعد العضوي للغة يقترب منها كمنظومة لسانية (سوسير).

-2- والأرض – الإقليم المتحد، حالة جغرافية اجتماعية – سياسية مقاربة لفكرة راتزال عن المجال الحيوي، من جهة ولمشروع وتصورات جمال حمدان وانطون سعادة من جهة ثانية (الأرض كشرط اجتماعي – تاريخي – ثقافي).

-3- والتاريخ هنا، أبعد ما يكون عن تاريخ محمد عابد الجابري كزمن مغلق أعم لدورة بيانية- عرفانية.  انه أزمان متناوبه – دائرية ومفتوحة.

-4- أما العامل الاقتصادي، فهو ابتداءً ليس اقتصادياً، بالمعنى الأيديولوجي المقحم أو الميكانيكي بل عامل هام وحاسم في سياقاته التاريخية، وحوامله الأيديولوجية، ولنا أن نلحظ هذا العامل وسياقاته، في ثلاث محطات تاريخية – اجتماعية – أيديولوجية كبرى ساهمت في صياغة الخصوصية القومية في الحالة العربية، الأولى زراعية بحامل توحيدي للأرباب الوثنية في اله مركزي (قومي) والثانية تجارية بحامل توحيدي أوسع إمبراطوري (إسلامي) والثالثة صناعية حاولت التماهي مع الثورة الصناعية الأوروبية بحامل أيديولوجي لدولة السوق القومي:-

  1. ترتبط المحطة الأولى بما سماه ماركس بنمط الإنتاج الآسيوي (السيطرة على الأنهار الكبرى) كما حدث في مصر وبلاد الرافدين (العراق القديم) حيث أدى ذلك إلى توحيد الجماعات والإمارات الصغيرة حول مملكة قوية وتوحيد الكهنة والمعابد في عبادة مركزية (أخناتون في مصر) والآلهة المركزية عند أكد وآشور وبابل مما أسس لأول الأيديولوجيات القومية في المنطقة العربية.
  2. وترتبط المحطة الثانية- النمط الايلافي، حسب فيكتور سحاب، بظهور الإسلام كأيديولوجيا إمبراطورية تشكلت حول القبائل التجارية الكبرى انطلاقا من مكة وهي الفرصة التي حازتها قريش بعد تحول طرق التجارة الطويلة جنوباً بسبب الحرب الفارسية – والرومانية شمالاً. ولم تتح هذه الفرصة من قبل لتدمر أو الحضر أو الأنباط. ويلاحظ هنا أن لغة قريش (التجارية) لم تكن سوى الموروث الذي شكله الأنباط ودورهم في إعادة صياغة الآرامية بالحرف العربي كما انتهى عند قريش.

كما يلاحظ سمير أمين الدور الهام الذي لعبته التجارة بعيدة المدى في صياغة الحالة الإمبراطورية العربية الجديدة.

  1. أما المحطة الثالثة، فهي المحطة التي تعالقت فيها التجربة المصرية مع الثورة الصناعية البرجوازية الأوروبية ونموذجها في بناء دولة السوق القومي كان ذلك تحت أكثر من عامل: الحملة الفرنسية البونابرتية وفترة محمد علي ثم إسماعيل باشا التي ترافقت مع الحقبة القطنية وشق قناة السويس. ذلك أن الحرب الأهلية الأمريكية حرمت الصناعات البريطانية والأوروبية من القطن الضروري لصناعة المنسوجات الرئيسية آنذاك، مما جعل الرأسمالية البريطانية تتجه نحو مصر فضلاً عن دور السويس في خدمة شركة الهند الشرقية البريطانية.. وقد كان حظ مصر سيئاً للغاية حين بدد إسماعيل باشا هذه الفرصة بفساده وحرم مصر من أن تشكل قاعدة حديثة لبناء دولة السوق القومي العربي. فيما تكفل الأنجليز والفرنسيون قبل ذلك بضرب مشروع محمد علي لتوحيد مصر وبلاد الشام…

وقد تكرر الأمر بعد قرن تقريباً مع جمال عبد الناصر

وبهذا المعنى أن التجزئة التاريخية في المنطقة العربية تجزئة لوحدة سابقة، ذلك أن هذه المنطقة كونت هوية سياسية موحدة، ونسبياً ممركزة خلال قرنين على الأقل وبقيادة “طبقة” بيروقراطية لعبت الدور الهام في تجميع الوحدات الاقتصادية الصغيرة تحت قيادتها وهيمنتها، وهذه أحدى سمات التشكل القومي في المجتمعات الأسيوية، قبل أن تتمزق المنطقة إلى وحدات إقليمية سياسية في أواخر العهد العثماني لتعود للوحدة تحت الحكم العثماني.

أن تاريخ المنطقة ظل تاريخ إمبراطوريات كبرى تتعرض للتمزق كلما شاخت إحداها “وبتعبير أبن خلدون” كلما فقدت عصبيتها، وبتأثير الترف والاندماج التام بالحضارة وانهيار الإمبراطوريات نفسه لم يكن في كل مرة إلا محصلة للركود وضعف تقسيم العمل والتبادل والفائض بالتالي:

أن اعتماد هذه الإمبراطوريات على فائض خارجي “فتوحات وخراج وجزاية وتجارة بعيدة كان يعرض “الطبقة” البيروقراطية الحاكمة لهذه الإمبراطورية، والإمبراطورية نفسها، للتمزق كلما دب فيها الضعف وعجزت عن تأمين الفائض. وفي كل مرة لم يكن ذلك إلا امتدادا للطابع الآسيوي للإنتاج، ذلك أن ملكية الدولة للأرض ومصادر المياه كافة بمثابة امتداد الملكية العشيرة والقرية الجماعية “في الدولة خليفة أو زعيم يحكم باسم الشعب، ويملك باسم الشعب، وفي المشاعة زعيم صغير يرعى شؤونها ويوزع الأرض والفائض دورياً على العشيرة أو القرية”.

أن المقدمة السابقة تقودنا إلى أنه حتى في ظل الإمبراطورية الكبرى ظل الاقتصاد المغلق والوحدات الاجتماعية الصغيرة هي الأساس، فظلت مقدمات أو ممهدات التحول إلى أمة ضعيفة وجامدة، ولم يكن ممكناً تحقيق التراكم اللازم لأعلى صعيد الوحدة الصغيرة ولا على صعيد الدولة.

كما لم يجر تطور ملموس على تقسيم العمل، وظلت الصناعة المنزلية قوية ومكينة، وبالتالي لم يتحقق تحول قوة العمل إلى سلعة في أطر تاريخية تؤول إلى الرأسمالية. فما حدث هنا يغاير إلى حد كبير ما حدث في أوروبا: أقطاعات كبيرة يجري توحيدها لصالح التحول الرأسمالي، بينما هنا دولة كبيرة مركزية تقودها، “طبقة” بيروقراطية عثمانية، يجري تمزيقها إلى إقطاعيات تأخذ بالتحالف مع القوى الرأسمالية الأوروبية الصاعدة.

أن مرحلة تاريخية متقدمة في الغرب أساسها تطور الملكية الخاصة حسمت التطور الرأسمالي لصالح أوروبا، وجعلت الشرق تابعاً في فلكها. لقد حررت الملكية الخاصة المتطورة في أوروبا، العلاقات من أثارها الجماعة المغلقة من الركود، وأطلقت العنان للحرفيين، والتبادل الحر بالنمو في حين ظلت الملكية الجماعية حتى من قبل المشاعات أو من قبل الدولة، كابحاً لهذا التطور في الشرق رغم الأهمية التجارية للشرق ورغم العديد من النوبات الصناعية.

وحيثما وجد الغرب شذوذاً في حركة التطور في المشرق الإسلامي، عمد إلى تصفيته مستخدماً شتى أنواع التدمير “تدمير تجربة محمد علي مصر” وهي التجربة التي لم تجر إلا في مرحلة التنافس الاستعماري وفي أعقاب تطورات حدثت في الملكية الخاصة في مصر أوجدتها التشريعات العثمانية نفسها.

إننا أمام تاريخ صاغته الملكية الجماعية والاستبداد المركزي بشكل موحد، وطورت فيه مقومات القومية اللازمة.

 كيف تحقق الأمة ذاتها في غياب الشروط التقليدية للسوق:

إذا كانت الخصوصية السياسية للسيرورة القومية في الحالة العربية أعطت هذه الحالة طابعها المتميز والفريد في التاريخ، فإن هذه الخصوصية بالذات بالقدر الذي تبدو فيه أبعد من اللازم عن الخطوط العامة النظرية للتصورات الماركسية حول الأمة، فإنها أقرب ما تكون لهذه التصورات فيما يخص البؤرة المركزية لدولة السوق القومي.

ونقصد هنا ما يتصل بالحاجة إلى المركز الأكثر تطوراً داخل الخارطة القومية كما كانت بروسيا بالنسبة لألمانيا. والفرق هنا هو أن بروسيا كانت تحوز من الشروط الداخلية التقليدية ما يفوق الشروط الخارجية، فيما يأخذ التاريخ العربي صورة مغايرة ولكن انطلاقاً من فكرة القاعدة أو المركز الإقليمي ذاتها التي نهضت حولها كل الأمم الأوروبية.

هو ما يعني، أن كل حديث عربي بدون هذا المركز ينسف الفكرة القومية من جذورها كما يعني أيضاً أن هذا المركز، بالضرورة هو ما بين وادي النيل ووادي الرافدين أو القوس المصري الشامي – العراقي، (مصر+ الهلال الخصيب) وذلك انطلاقاً من اعتبارين.

  • الموقع الإستراتيجي الخاص لهذه المنطقة الذي كان يتحكم في ملتقى القارات الثلاث، وخاصة في طرق التجارة بعيدة المدى وفي طريق الحج، ولاحقاً في الطريق إلى آبار النفط.
  • تخلف أنماط وعلاقات الإنتاج، وميل القوى والسلطات المعنية إلى تعويض ذلك بالاعتماد على تحكمها بطرق القوافل والحج وعلى الإتاوات ثم على الوظيفة السياسية الخارجية لاحقاً.

إن النشاط السياسي لقوى وشعوب هذه المنطقة في ظروف التكون الرأسمالي المشوه، ليس مقطوع الصلة أو بعيداً عن تقاليد مثل هذا النشاط في ظل علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية وعلى امتداد الحقبة الإسلامية منذ الدولة الأموية، والحرب ضد الروم وضد الصليبين وكذلك ضد الغزوة المغولية، هي ذاتها الحرب ضد الغزوة الغربية – الصهيونية منذ مطلع هذا القرن.

إن التبلور الكياني العربي، على الصعيد القومي لم يتم مرة، ولا يبدو أنه يحوز سيرورة تطوره خارج التعاطي السياسي مع الظروف الإقليمية والدولية المحيطة خارج الصراع مع الغزوات الخارجية، وذلك سواء بالنسبة للدول ذات البُنى الاقتصادية – الاجتماعية المتطورة نسبياً “مصر والشام” أو بالنسبة للدول التي استمدت وجودها من موقعها الجغرافي – السياسي مثل الأردن. وعلى سبيل المثال فإن مصر التي امتلكت منذ القرن التاسع عشر إمكانية موضوعية لإنجاز تطور كياني خاص سرعان ما وجدت أن ذلك مرتبط كل الارتباط بالسيطرة على المشرق والمواجهة مع الغزوات الخارجية “تجربة محمد علي ثم عبد الناصر”.

وليس مجرد مصادفة أن المعارك الكبرى التي شهدها التاريخ العربي هي المعارك ذاتها التي شهدت أو أدت إلى قيام دول مركزية جديدة، محورها وميدانها الشرق الأوسط، أو القوس الذي يضم مصر ومنطقة الهلال الخصيب.

إن الانتصار الحاسم في اليرموك، وهو الذي أدى لقيام الدولة الأموية في دمشق لاحقاً، وإن الانتصار الحاسم في معركة حطين هو الذي أسس وبصورة مماثلة لتوطيد الدولة الأيوبية، وإن الانتصار الحاسم في عين جالوت هو الذي أسس بصورة مماثلة أيضاً لتوطيد الدولة المملوكية. كما أن الهزيمة الكبرى في مرج دابق هي التي أدت إلى سقوط آخر المراكز الإسلامية في الشرق الأوسط.

ويمكن رد الأهمية السياسية لبلدان المنطقة في العهود السابقة كما في الوقت الحالي للاعتبارات التالية:

الحالة الأولى:

إن تدني مستوى تطور القوى المنتجة وتدني تقسيم العمل، وحالة الركود والشكل المتخلف لإعادة الإنتاج، ما كان لها إلا أن تعيق وتدمر الإمكانيات الطارئة لتجديد الإنتاج البسيط، فيما كانت طرق التجارة بعيدة المدى، وكذلك طريق الحج الشامي والمصري، تفتح آفاقاً أفضل مع البيروقراطية العسكرية الحاكمة، لا سيما وأن الموقع الإستراتيجي الخاص للمنطقة كملتقى للقارات الثلاث باتجاه الهند والصين وإفريقيا وباتجاه المدن الأوروبية “طريق العطور طريق البخور، وطريق الحرير” كان عاملاً هاماً حاسماً على هذا الصعيد.

إن ضعف الفائض الداخلي الناجم عن تخلف الأنماط السائدة في ذلك الحين جعل من طرق التجارة البعيدة المدى، المصدر المناسب لتعويض الفائض الداخلي بعامل سياسي خارجي، الأمر الذي جعل من هذه المنطقة ميداناً لكل الحروب والصراعات الخارجية والداخلية. ولم تكن مصادفة أن يتمكن تجار مكة الذين عارضوا الإسلام في البداية، من الاستيلاء على زمام الدولة الإسلامية لاحقاً ونقلها إلى دمشق، أهم مركز تجاري في حينه من حيث التجارة وتطور الحرفة ومن حيث موقعها في شبكة طرق التجارة البعيدة. ولم يكن ذلك مجرد انتصار للسياسية على الإيديولوجيا التي مثلها الإسلام، بل كان تعبيراً مبكراً عن مغزى العلاقة التي تربط السياسية بالجغرافيا.

كما لم تكنن مصادقةً أيضاً أن يترافق انهيار الدولة الإسلامية مع انهيار طرق القوافل تحت ضربات قطاع الطرق أو حركات التمرد وتحت ضغط منافسة المدن الأوروبية الصاعدة في ذلك الوقت. ولقد أسس كل ذلك تقاليد ذات شأن كبير في موقع الدول الشرق أوسطية وقدرتها على توظيف موقعها في الصراع على المنطقة.

الحالة الثانية المعاصرة:

إن شروط وظروف التكون الرأسمالي المشوه لبلدان المنطقة تساعد على القول أن مصير المنطقة ما زال يتحدد بالنشاط السياسي على هامش تطور علاقات الإنتاج الكولونيالية وفي دائرة الصراع المباشر في الشرق الأوسط… إن مصر مثلاً التي تميزت بتطور داخلي ملحوظ على الصعيد البُنى وتجديد قوى الإنتاج وعلى صعيد استكمال تطورها في إطار القوانين الرأسمالية، سرعان ما وجدت نفسها في لحظة محددة توقع على اتفاقيات كامب ديفيد مع العدو القومي – الطبقي الذي يهدف أصلاً إلى منع بلدان المنطقة من استكمال تطورها الاجتماعي، أياً كان الشكل الذي يأخذه هذا التطور في الإطار الرأسمالي أو في غيره، ما دامت السمة العامة له سمة التعميم الاجتماعي وتحويل المواطنين من مواطني قبائل وطوائف إلى مواطني طبقات، الأمر الذي يسمح بالقول إن هذا التطور سيعيد مصر آخر الأمر إلى دائرة الصراع مع العدو القومي – الطبقي وحلقته الصدامية المباشرة: إسرائيل.

إن تطور مصر الداخلي يظل هو الآخر مرهوناً بالأهمية السياسية الخارجية التي يحددها الصراع في الشرق الأوسط، ولكن من منظار مصالح المركز المصري المتطور. ومصر التي كانت في موقع الزعامة القومية قبل استكمال البرجوازية دورتها فيها، معينة مع اتساع وتطور حركة توليد الفائض الداخلي وإعادة إنتاج القوى والعلاقات الاجتماعية في إطار القوانين الرأسمالية، معنية بتجديد الصراع مع العدو القومي – الطبقي من أجل تعميم زعامتها السياسية كطبقة ناجزه، تسعى إلى توسع الهامش المتاح لها في النظام الدولي لتقسيم العمل على الصعيد الإقليمي، على الأقل.

أما في البلدان الأخرى المعنية في الشرق الأوسط، فمن المهم بمكان، أن نلاحظ الأهمية البالغة لنشاطها السياسي الخارجي الشرق أوسطي بعد أن غدا هذا الحضور مصدر قوة على الصعيدين الداخلي، والإقليمي، كما على الصعيد الاقتصادي نفسه كمصدر لإعادة توزيع الثورة من خلال موازنات الدولة بما ينسجم مع التكوين الطبقي للدولة في كل منها والملاحظ هنا، أن تكوين الدولة في هذه البلدان، متماثل في أهميته السياسية، على الصعيدين الموضوعي والذاتي وما يتصل بهذه الأهمية على الصعيد الاجتماعي.

أن النموذج القائم كحاجة طبقية داخلية في البلدان المعنية لا يلعب دور الممثل السياسي للطبقات الأساسية على الصعيد الداخلي، بل يتجلى أيضاً في دور سياسي خارجي يلعب الدور الحاسم في إعادة إنتاج نفسه داخل شبكة العلاقات السياسية – الاجتماعية الداخلية وذلك بصرف النظر عن التباين الواضح في الخيارات السياسية والاجتماعية نفسها.

  1. الماركسية كوعي ذاتي للضرورة القومية:

حيث تنحاز الماركسية التقليدية، مسكونة بنظرية الحلقة الضعيفة، لتنويعة ماركسية على المظهر القطري للقانون الرأسمالي العالمي تحت شعارات الثورة الاشتراكية القطرية أو الثورة الوطنية الديمقراطية تنحاز هذه المداخلة لثورة أخرى، هي الثورة القومية الديمقراطية كوعي ماركسي للضرورة القومية.

فالبُنى العربية القائمة ليست حركة الخاص في قلب العام، ولا منطق الروح في قلب الطبيعة ولذلك لا يمكن أن تتعين كبُنى مستقلة خارج الضرورة القومية.

إنها عضويات خارجية غربية، رخوة، يحكمها قانون التكاثر الأميبي، والأثني الداخلي، كتعبير عن قانون التطور اللامتكافئ والتبادل اللامتكافئ الرأسمالي الخارجي، وليس قانون التطور الداخلي لأسواق وعلاقات إنتاج خاصة متمحورة على بُنى برجوازية قومية مستقلة نسبياً.

وبالتالي فلسنا غالباً، إزاء طبقات برجوازية وسلطات حكم برجوازية بل إزاء قوى ومجاميع ما، تروج نفسها كذلك وتعيد إنتاج البُنى التحتية وقوى المعارضة بوحي الكذبة نفسها، كذبة الثورة الوطنية الديمقراطية أو الثورة الاشتراكية أو البرجوازية الوهمية، وهو ما يعني أننا لسنا في معارضة هذه السلطات لأنها برجوازية ولأن ديمقراطيتها برجوازية ودولتها برجوازية… بل لأنها ليست كذلك.

إن الإشتراكيين وحدهم أصحاب مشروع دولة السوق القومية الانتقالية القائمة على دولة المؤسسات والحق والحق العام والتنمية والتفاعل داخل الحقبة الرأسمالية بشروط الحد الأدنى من هذه الحقبة، على الأقل. أما الثورة الاشتراكية، فكل حديث عنها قبل أن تتعين الفكرة القومية نفسها في دولتها السياسية القادرة على استعادة الفكرة في صورة أرقى عبر قانون نفي النفي، ليس إلا إعادة إنتاج للمأزق نفسه، ولكن بصورة أسوأ. فلم يعد تقسيم العمل الدولي الجديد يسمح لدولة الجغرافيا السياسية القطرية الريعية البيروقراطية بالاستمرار كما استمرت هذه الدول بين نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة، باستحقاق إقليمي لمركز القوى العالمية. والأهم من ذلك، أن دولة الجغرافية السياسية البيروقراطية العربية ليست عاجزة عن التطور فحسب بل وعن البقاء أيضاً.

وليس دقيقاً القول أن الدولة القطرية تتكرس اليوم في مواجهة الفكرة القومية، حيث تميل الدولة القطرية نفسها للتحلل مع سقوط مسوغاتها الخارجية وانهيار المركز العالمي للدولة البيروقراطية وانعكاسات ذلك على انهيار التقسيم السابق للعمل في حلقاته الإقليمية ونماذجه البونابرتية المتعددة. أن قانون التفكك والتحلل هو القانون الملموس للبُنى العربية الكولونيالية في مرحلة انهيار الكينزية الجديدة وانفتاح العالم على مساحات التجارة الحرة واللغات الجديدة.

وليس هذا استنتاجاً مشتقاً من قراءة الواقع العربي وحسب، بل وأساساً من قراءة مغايره للماركسية ضمن التصورين التاليين، اللذين يدخلان في تناقض صريح مع التصورات الماركسية التقليدية في بعدها العالمي، كما في بعدها العربي.

  • التصور الأول: الماركسية فلسفة الحقبة الاشتراكية، والحلقة الضعيفة لقانون التطور اللامتكافئ أم فلسفة الحقبة الرأسمالية والحلقة القوية لقانون آخر.

ينطلق هذا التصور من أن الحلقة الضعيفة وكسرها، لا يمكن أن توفر شروطاً تتجاوز الحلقات الرأسمالية المتطورة نحو صيغة اجتماعية – اقتصادية أرقى، وبالتالي فإن التطور اللامتكافئ لا يوفر فرصة لتجاوز الآليات الاقتصادية الاجتماعية العالمية للقانون الرأسمالي الذي يوحد العالم. وفي صورة ذلك، فإن الإيديولوجيا لا يمكن أن تلعب دوراً معادلاً للشروط الاجتماعية الاقتصادية كما أن تقدم مثقفي الطبقة الوسطى الهامشية في بلدان الجنوب العالمي، لا يعادل غياب الطبقات الأساسية. فالقوى المنتجة التاريخية وعلاقات الإنتاج تتحدد في قلب العلمية الإنتاجية وليس على هامشها.

وعندما تحدث ماركس – أنجلز – عن دور القوى الذاتية والإيديولوجيا الألمانية، تحدثا عن هذا الدور بحضور الشروط الموضوعية وليس رغماً عنها.

ولذلك فإن تحميل العامل الذاتي الستاليني مسؤولية فشل التجربة السوفياتية، هو هروب من الأسئلة الحقيقية وليس مجرد احتجاج على الضغط البوليسي الستاليني.

كان ستالين مشجباً ملائماً أما المسؤولية الحقيقية فتطال القراءة الملتبسة للاشتراكية وإمكانية نجاحها عبر كسر الحلقة الضعيفة وبقية الأوهام التي رافقتها.

ولعل آخر اجتهاد يمكن استنتاجه مما سبق هو أن الثورة الاشتراكية وإمكانية نجاحها الموضوعي بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، تستدعي في حضرة القانون الرأسمالي وسيادته العالمية، قانوناً عالمياً للصراع أيضاً.

فالاشتراكية وفق هذا الاجتهاد لا يمكن أن تتحقق في الحلقات الوطنية الضعيفة بفعل قانون التطور اللامتكافئ بل على الصعيد العالمي، وفي الحلقات القوية التي تكون فيها علاقات الإنتاج قد وصلت ذروة التناقض مع قوى الإنتاج بفعل قانون آخر، هو ميل معدل الربح للهبوط. فتكون الماركسية عملياً فلسفة الحقبة الرأسمالية وليس الحقبة الاشتراكية.

وحتى لا يفهم من ذلك عودة للكاوتسكية والمارتوفيه – ومحاولة لتأسيس مرجعية ماركسية جديدة من الأدبيات المنشفية، على أهمية هذه الأدبيات التي تحتاج لقراءة جديدة، فإن منظومة غرامشي هي الأقرب إلى الذهن في هذا التصور، وخاصة مفاهيم غرامشي عن حرب المواقع والكتلة التاريخية والمجتمع المدني والمجتمع السياسي التي تدور كلها وفيما يخص البلدان المتطورة حول فكرة واحدة، هي الصراع داخل القانون الرأسمالي للعالم وليس خارجه.

  • التصور الثاني: الاشتراكية عربياً – فلسفة الحاجة القومية الديمقراطية وليس فلسفة الحاجة الاشتراكية القطرية.

إذا كانت تصورات غرامشي حول حرب المواقع تحيل الماركسية من فلسفة لديكتاتورية العمال الموهومة، إلى فلسفة للصراع داخل القانون الرأسمالي وليس خارجه، فإن تصورات غرامشي حول المثقف العضوي والمثقف التقليدي تساهم في تقديم إجابات حية على الأسئلة المطروحة عربياً فتصورات غرامشي تحيل البنية العربية القطرية كبنية محيطية كولولنيالية إلى معادل للمثقف التقليدي ودور الوكيل السياسي – الأمني الخارجي لمثقف عضوي خارجي أيضاً.

فالعرب بعد أن خسروا مشاريع ثوراتهم البرجوازية القومية (محمد علي – عبد الناصر) وتحولوا إلى كيانات ومجاميع قطرية فقدوا شروط التحول من حالة المثقف التقليدي إلى حالة المثقف العضوي وأصبحت كل واحدة من هذه الكيانات حالة مثقف تقليدي في خدمة مثقف عضوي خارجي لا تعنيه في شيء شعارات التحولات الاشتراكية أو الوطنية الديمقراطية ما دامت تعيد إنتاج البُنى البيروقراطية العربية كخاص لعام الأخر العضوي، الخارجي.

إن الدرس الذي نتعلمه من غرامشي هنا، هو أننا لا يمكن أن نحوز شروط المثقف العضوي إلا بتجاوز حالة المثقف التقليدي، من البُنى القطرية وشعاراتها وقوانينها إلى البنية القومية وشعاراتها وقوانينها.

وهذه ليست مهمة البرجوازية العربية السائدة ولا القوى القومية السائدة ولا القوى اليسارية السائدة. فكما تتجلى مظاهر هذه البرجوازية في تناقض نظرتها الرأسمالية مع العجز الذاتي عن التجاوب الكلاسيكي مع الحد الأدنى من شروط التحولات الرأسمالية في دولة سوق قومية، أي مع شروط التحول إلى مثقف عضوي، وإعادة إنتاج نفسها كمظهر خاص ناقص ومشوه وتابع لعام أخر، متطور وسائد.

فإن التصورات القومية السائدة، بدل أن تأخذ شكل الضرورة التاريخية في نفي الفكرة لنفسها في الطبيعة، تأخذ هنا شكل نفي النفي والاستعادة بعد تعين انتظاري مهدوي وليس استعادة الخاص الفكري كعامل سياسي.

أما الأسوأ من البرجوازية الطفيلية والتصورات القومية المذكورة فهي التصورات اليسارية التي تتنفس الكولونيالية من فضاء التصورات الاشتراكية القطرية الموهومة أو الوطنية الديمقراطية فإذا كان تغييب الخاص العربي وإلحاقه بالعام الامبريالي ومن زاوية تجاوب البُنى القطرية الكولونيالية مع هذه الاعتبارات، فالأسوأ هنا، هو تغييب العام القومي في ثقافة الوعي الكولونيالي لدى اليسار العربي، وهو تغييب قام على استنتاج هذا اليسار بأن كل شعب من الشعوب الكبيرة والصغيرة قادر على بناء دولته واقتصاده ومجتمعه الوطني المستقل وفق قانون التطور اللامتكافئ، رغم أن هذا القانون أصبح مظهراً لوحدة القانون الرأسمالي العالمي وقانون التبادل اللامتكافئ، وتحول من عبء على الرأسمالية على عبء على الشعوب الأقل تطوراً.

فبدل أن تحضر الحرية كوعي للضرورة القومية جرى فصل الوعي عن الضرورة والذات عن موضوعها، والأنا القومية عن سيرورتها وتعينها التاريخي، وتحولت البُنى العربية إلى آنات مملوكية، متمحورة على الأخر، بمنطق التماثل الذي تفرضه بنية المثقف التقليدي القطرية، وليس بمنطق التمثل الذي تستدعيه بنية المثقف العضوي القومية.

وإذا كان منطق التماثل، يعبر عن نفسه إيديولوجياً بظواهر مثل: المنطق الصوري والفرقة الناجية، والحتمية الغائبة، بتجلياتها المختلفة (المغلقة الدائرية التي تهمش الخاص وتشل العام في طوباوية عدمية، والحتمية التي تحيل الخاص إلى عام وتأخذ مكانة حسب تصورات المركز والمحيط، والحتمية الغائية الاقتصادية التي تلغي العام العربي في عام آخر، هو العام الرأسمالي أو وفق غائية مادية منبسطة ستالينية، تغلب الاقتصاد على السيرورة الاجتماعية وتحل البنية التحتية محل الضرورة القومية، وبالتالي الحتمية التاريخية محل الضرورة القومية، فإن منطق التمثل هو المنطق الماركسي والفلسفة الوحيدة القادرة على نقل بنية المثقف التقليدي القطرية إلى بنية المثقف العضوي القومية، ولكن بالتعرف على نفسها ضمن هذا الفهم الذي يجعل من براكسس غرامشي وعياً بضرورة المثقف العضوي.

فخارج هذا الفهم ليس ثمة ماركسية بل ماركسوية المعازل البشرية المؤدلجة تحت سقف قانون التطور اللامتكافيء كدول قطرية ذات عصبية.

أن ماركسية الثورة القومية الديمقراطية، هي بالضبط ماركسية الحرية كوعي للضرورة القومية.

وهو وعي تاريخي، موضوعي، ثلاثي، نقدي متعين لا يرى الأشياء بالتقابل أو بالتخالف أو بالتنافر، فهذه جميعها مظاهر لوعي المثقف التقليدي والمعازل البشرية.

فيكون الخاص الملموس، الحي، هو الوعي القائم على التجريد الحي، كعلاقة تعين ثلاثية تنطوي على الوحدة، كما تنطوي على الصراع، وليست علاقة ثنائية صورية تقوم على التنافر أو الامتثال.

فيكون الخاص الملموس، الحي، هو المظهر المتعين للعام الكلي، المجرد، ليس إلى جانبه أو مقابله أو هو نفسه، وينكشف القانون القومي، ليس كحلم طوباوي أو حالات انقلابية للنخب السياسية هنا وهناك، بل في طابعه الشعبي المعاش وفي تجلياته الخاصة في الحياة اليومية التي تمس أدق المصالح الشعبية، التي تتعرف على نفسها وتعيد إنتاج استحقاقاتها الميدانية بدلالة القانون القومي وبالاقتراب منه على شكل تراكمات كمية في مختلف الحقول.

([1])  سمير أمين – أزمة المجتمع العربي – دار المستقبل العربي – القاهرة 1985 – ص202.

([2])  هشام شرابي – البنية البطركية – دار الطليعة – بيروت 1987 – ص36.

([3])  جورج طرابشي – الدولة القطرية والدولة القومية – دار الطليعة بيروت.

([4])  ناصيف نصار- تصورات الأمة المعاصرة – دار أمواج – بيروت 1994.

([5]) دراسات عربية ع ك 1986.