إطلالة على تاريخ الظاهرة الطائفية في المجتمعات العربية

ورقة مقدمة للقاء الرابع لمنتدى المناضل عبدالرحمن النعيمي الفكري

إعداد : معهد المشرق للدراسات الجيوسياسية – الأردن

الدكتور عصام السعدي و الدكتور أسامة عكنان

مقدمة:

ليست هناك مسألة أكثر إثارة للجدل المُقلِق من “الطائفية”، وليس هناك من هم أكثر بلبلة وإرباكا لواقعنا العربي المعاصر من “الطائفيين”، ولكن وعلى الرغم من عمق هذه المسألة وكثرة دعاتها والمنخرطين في جحيمها، فإنها ما تزال قضية عصيَّة على التشخيص الدقيق من قبل الدارسين والمتابعين لها، لأنها مرتبطة بالكثير من المتعلقات، وتتحرَّك في عوالم أخطبوطية من الحيثيات، وهو ما يجعلنا ونحن بصدد هذا العرض المختصر والمركز لهذه الظاهرة التي ما تزال ترافق كلَّ سيروراتنا السياسية المعاصرة، معنيين برصد أهم العناصر المُشَكِّلَة لهذه الظاهرة أو المُتَشَكِّلَة عنها، بسبب صعوبة إن لم نقل استحالة الإلمام بكافة بل حتى بمعظم تلك العناصر في عرضٍ محدد الهدف والغاية كهذا.

في هذا العرض سنبحث في المسائل التالية:

أولا: تعريف “الطائفية” كظاهرة.

ثانيا: تَتَبُّع جذور “الطائفية” في تاريخنا العربي الإسلامي.

ثالثا: أسباب النزاعات “الطائفية” المعاصرة في المجتمعات العربية.

أولا: تعريف “الطائفية” كظاهرة.

بداية يجب أن نحدِّد ما ليس طائفيا كي نتمكن من تعريف ما هو طائفي. فالدين ليس طائفيا، والمذهب ليس طائفيا، إن الانتماء لمذهب والانتماء لدين عن وعي، خاصة عند أوائل من أسسوا هذا الدين أو كانوا معه لا يُعَدُّ طائفية، بل هو يُعَدُّ إيمانا حتى لو أدى في بعض

الأردن – عمّان

E-mail : Al-mashreq_institute@hotmail.com                Mobile: (962)795564730

المراحل إلى ما نسميه حروبا دينية، ولكن الطائفية تأتي لاحقا، وذلك عندما يبدأ الانتماء يتحول من الدين أو المذهب إلى الجماعة التي ينتشر في صفوفها الدين أو المذهب، وهذا يعني أن ليس بالضرورة أن يكون “الانتماء لهذه الجماعة” ناجما عن تَدَيُّن حقيقي أو عن معرفة بالمذهب، فالطائفية تبدأ من هذه النقطة، وهذا هو مكمن خطورتها، لأن الانتماء يصبح انتماء لجماعة من البشر وليس لدين ولا لمذهب، من هذه الناحية ومن حيث المبدأ فإن الطائفية لا تختلف كثيرا عن العشائرية وعن جماعات كثيرة أخرى، إلا أنها تختلف لجهة أنها غالبا ما تستدعى رجال الدين ليكونوا حرس حدودٍ للجماعة بمعنى حرس حدودٍ للنص الذي يؤسِّس لطائفية الجماعة.

“فالطائفية إذا غير مذهبية، فليس ضرورياً أن يكون الطائفي متديناً أو ملتزماً دينياً ومذهبياً، على العكس من المذهبي، الذي يفترض به التقيد بقواعد مذهبه فكرياً وسلوكياً. ومن الممكن أن يكون المذهبي طائفياً أيضاً، حينها تكون لديه الطائفية في بعدها الاجتماعي والإنساني والسياسي هي المذهب عينه في بعده العقيدي والفقهي والطقوسي. وتنشأ بين الطائفي غير المتدين والطائفي المتدين مساحة من الانسجام الخطير الذي لا يتردد في الفتك بالآخر الطائفي بكل الوسائل المتاحة”(1).

ومن هنا فإن الطائفية ببساطة، هي ميل فردي أو اجتماعي لتفضيل تفسيرٍ محدَّد أو مدرسة فقهية محددة لدين أو لمذهب محدِّد، على غيرها من الأديان أو المذاهب بتأثير ظروف اقتصادية – سياسية – مجتمعية معينة، وهو تفضيل يتَّخِذُ صفةً تَعَصُّبِيَّة تتداخل مع مفهوم اعتبار السمو في الذات وفي الأنا، على أساس تفضيل أبناء نفس المذهب أو الدين على غيرهم من المنتمين لمذاهب أو لأديان أخرى، ثم يبدا بالبحث عن ذاته الهوياتية الأنوية تلك في مُتَجَّسِّد سياسي.

“وتتصاعد هذه الميول أحيانا إلى حدٍّ تتَّخِذ فيه أشكالا عدوانية تجاه المذاهب أو الأديان الأخرى، وميلا للنَّبذ والرفض، وحتى العزلة عن الآخرين. أي هي نتاج تفاعل عوامل سياسية – اقتصادية – اجتماعية، ذات مساس مباشر بحياة الفرد اليومية، امتزجت مع تهديدات أمنية للهوية الثقافية للمجتمع، لتشكل توجهات اجتماعية تعصبية نحو الأخرين الذين يختلفُ معهم الطائفي في تفسير الشريعة أو المعتقدات الدينية”(2).

ومن هنا فإن الطائفية لا تعبِّر عن نفسها الاستعلائية إلا من خلال متجسَّد سياسي يملك الطائفة ادوات النبذ والإقصاء والاستعلاء على الآخر الديني أو المذهبي أو الطائفي والتحكم فيه، وبالتالي فعندما نتحدث عن “الطائفية” كظاهرة استعلائية إقصائية، فإننا إنما نتحدث عن كل نزعة سلطوية وعصبية وفئوية تستغل الدين من أجل التعبئة والنفوذ السياسيين، وبالتالي هي بعيدة عن القيم الروحية والمثل الدينية وتعاليمهما، لأنها نوع من التحزُّب السياسي لأغراض دنيوية، وهي تُسَخِّر الدين وتستغِلُّه من أجل تحقيق أهدافها وبرامجها السياسية الخاصة.

ولكن من الإنصاف أن نعترف بأن للطائفية معنى إيجابيا في بعض السياقات الخاصة، لأنه معنى ينطلق من اعتبار “الطائفية” ميلاً فطرياً من الإنسان إلى الطائفة التي يتفق معها عقائديا ومذهبيا وعرقيا وجغرافيا، بل ومهنيا أحيانا، إذ أن “الطائفة” عُرفت في بعض مراحل التاريخ العربي باعتبارها تجسيدا زمانيا لمفهوم “النقابة المهنية أو العمالية” بالمعنى المعاصر، فكان يقال “طائفة الحدادين”، و”طائفة النجارين”، و”طائفة الجزارين”.. إلخ. أما المعنى السلبي للطائفية، وهو الذي نتحدث عنه وعن مُخرجاته الكارثية على المجتمعات فيرتبط بـ “التعصب الطائفي” وبما ينجم عنه من أوهام وانحرافات تضاف إليها تأثيرات خارجية مرتبطة بمصالح سياسية خاصة.

“وهو اتجاه سلبي في معنى الطائفية يعمِّق الشحن والتوتر الطائفي في المجتمع، وما يرافقه من إلغاء للآخر، فتتحوَّل “الطائفية” إلى شكل من أشكال العنصرية. ومن أخطار تداعيات هذا المعنى للطائفية، تنامي ظاهرة التكفير والاستخفاف بدم الآخر وبممتلكاته ومقدساته”(3).

ثانيا: تَتَبُّع جذور “الطائفية” في تاريخنا العربي الإسلامي.

نستطيع رصد بدايات تشكُّل الظاهرة الطائفية في تاريخنا العربي الإسلامي – في دلالاتها السياسية بطبيعة الحال – مع اتساع الخلاف العلمي والفكري بشكلٍ مُطرد في الفترة التي أعقبت رحيل أئمة المذاهب الكبرى، وتحوُّل ذلك الخلاف الذي كان علميا فقهيا كلاميا يتَّخِذُ طابعا مذهبيا على النحو الذي فصلناه سابقا، إلى ما يشبه الحرب الشاملة على مختلف المستويات والمجالات، بما فيها الإعلام والفتاوى والاقتتال، ولقد كان ذلك بدءا من أواخر القرن الرابع الهجري الذي بدأ يشهد تراجعاتٍ واختراقات متلاحقة في دولة المسلمين مترامية الأطراف.

إلا أن “الطائفية السياسية” بوصفها ظاهرة تمَّ التأسيس لها في أعماق المذاهب الدينية الكبرى “سنة” و”شيعة”، لتتحول مع ظهور مُحَفِّزاتها ومُسَبِّباتها المباشرة على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين إلى مرضٍ عضال وجاد في جسد الأمة العربية، لم تتكامل بنيويا، ولم تصبح لها جذورها الراسخة – وإن كانت تكمن لفترات طويلة تقتضيها السياسة تحديدا من وقتٍ لآخر – إلا خلال حكم الدولتين العثمانية “الحنفية” والصفوية “الإمامية الشيعية”، أي عندما أصبح الصراع الطائفي في جانبه الأعظم صراعاً وتنافساً سياسياً مُغَلَّفاً بالشعارات المذهبية، وقد ساهمت في صنعه وتعميقه دول أوروبا – التي كانت في بدايات مدِّ نفوذها الخارجي – بهدف تفتيت وحدة الدول الاسلامية.

فإبان انتصارات العثمانيين المتتالية في عمق أوروبا، والتمدُّد الصفوي في المنطقة، وبعد أن أصبحت الدولتان “العثمانية/السُّنِّيَّة”، و”الصَّفَوِيَّة/الشيعية”، أقوى دولتين في العالم الاسلامي أجمع، بل وفي العالم كله تقريبا، تحرك الأوروبيون لضربهما من الداخل، فنشبت الحروب بينهما، حتى قيل أن أيَّ دولة في العالم لم تستطع الوقوف بوجه العثمانيين سوى الدولة الصفوية، وأن أيَّ دولة لم تعادِ الصفويين أكثر من الدولة العثمانية.

“وفي الوقت الذي كان فيه الأخوان روبرت وأنطوني شارلي “الانجليزيين” متحمِّسَين لصناعة المدافع النارية للشاه عباس الصفوي “ت: 1629م”، بغية استعمالها في الحرب ضد العثمانيين، فإن العثمانيين كانوا يُخرجون شيعة العراق من الجيش، وإن أبقوا على أحد منهم فلا يُسمح له، على أحسن الفروض، أن يتجاوز رتبة “ضابط صف”، ونتيجة الأمر أن انتهى هذا الصراع “الطائفي- السياسي” بين الدولتين الإسلاميتين الكبريين إلى سقوط “الصفويين” عاجلاً، وسقوط “العثمانيين” آجلاً، وتقسيم الدولة العثمانية واستعمار الدولة الإيرانية”(4).

ولكن في سياق تحليل الجذور التاريخية لتشكُّل هذه الظاهرة في مجتمعاتنا العربية، تتجاوز المسألة حدود البحث عن جذرٍ هنا وعن جذرٍ هناك بالمعنى المباشر والتراتبي النمطيين لتعقُّب توقيت وسبب نشأة ظاهرة معينة في التاريخ، لأن “الطائفية” وبسبب هويتها “السياسية” المندفعة باتجاه تَجَمُّع بشري استعلى على مذهبه بمعناه العقدي والفقهي، ليصبحَ هذا التجمع أسيرَ مصالحه السياسية التي بلورتها له نُخْبَةٌ المذهبية – التي هي الفئة الطائفية التي تكون قد جَرَّت خلفها مجموعة كبيرة من المكون المذهبي لتجَسِّد به الطائفة السياسية – تستدعي ضربا من ضروب التشابك والاشتباك بين عديد العناصر التي يتداخل فيها “الطائفي” بـ “المذهبي” بـ “الديني”، بل وبـ “الاثني” و”العرقي” إلى حدٍّ ما أيضا، حتى ليَغدو هذا التداخل عائقا – في النظرة المباشرة والأولية – أمام تلمسُّ السَّبَب والنتيجة في هذه الظاهرة، بدون عملية رصد متعمقة لها في أدق حيثياتها التاريخية.

إذ يمكنُنا رَصْدُ نشوءِ المذاهبِ الإسلاميةِ تاريخيًّا بسهولة، وثمّةَ دراساتٌ متقدّمةٌ في هذا الموضوع، ولكنّ مهمّةَ رَصْدِ تَحوُّلِ أتباعِ تلك المذاهب إلى طوائفَ اجتماعيّةٍ ذات مُتَجَسِّداتٍ سياسية منفصِلةٍ ومتباينة وذاتِ حدودٍ ثابتةٍ نسبيًّا، هي مهمّةٌ أصعَبُ وأعقد كثيرا من مهمة رصد تلك المذاهب، لأن البحث في رصد المذاهب ينشغل بالفقه وبالعقيدة وبعلم الكلام، وبأصول الدين بوجه عام، أكثر من انشغاله بالتاريخ وبتشابكاته وبتعقيداته السياسية، خلافا للبحث في رصد الطوائف، الذي يضطر للانشغال بالتاريخ في أدق تفاصيله ومكونات سيرورته، لأن ظهور الطوائف السياسية واشتقاقها من المذاهب العقدية والفقهية، هو في واقع الأمر ضربٌ من ضروب التَّوَلُّد من أرحام السيرورة التاريخية “سياسية واقتصادية مجتمعية”، وخاصة في أهم أربع مراحل تاريخية أثرت بشكل عميق في تشكيل ظاهرة “الطائفية السياسية” في تاريخ الأمة، وهي مرحلة تتعلق بـ “تاريخِ بغداد” في القرنِ الرابعِ الهجري أولا، ومرحلة تتعلق بـ “تاريخ الصراعِ العثماني – الصفَوي”، وآثارِه وما صاحبَه من تسنينٍ وتشييعٍ بقوّةِ السَّيف ثانيا، مرحلة تتعلق بـ “بَدْءُ تحويلِ أهلِ الذّمّةِ إلى جُزْءٍ من كُلٍّ بالمعنَيَيْن، طوائفَ ومواطنين جزئيًّا في الوقتِ عينِه ثالثا، ثمّ المرحلة التي تتعلق بـ “تدخُّلُ الاستعمارِ لحمايةِ ما أصبحَ يُعرفُ فجأةً بالأقلّياتِ “بلغةِ الأوروبيِّين”، وقيامُه بمَأْسسةِ المحاصَصةِ الطائفيةِ في إدارةِ مجلسِ جبل لبنان إثْرَ مذابحِ عامِ 1860.

إن ظهور الطوائف ثم تَحَوُّلُها إلى جماعاتٍ ذاتِ وظيفةٍ سياسيّةٍ تَطمحُ للمحاصصةِ وتَعملُ من أجْلِها؛ يرجع إلى واقعة أن السياسةَ في تلك العصور لمْ تكُنْ وظيفةً قائمةً بذاتِها، ولا كانت الدّولةُ قائمةً كوظيفةٍ منفصلةٍ عن المجتمع، وغنما كانت الأمور متداخلة بشكل عصي على الفصل التمييزي الوظائفي.

ومع ذلك، يُمكنُ ملاحظةُ بداياتِ هذا التحوُّلِ في نُشوءِ الدّولةِ الفاطميّةِ كمرحلةٍ أُولى، وتحوُّلِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ مِنْ جماعةٍ من العلماءِ المعارضينَ للمعتزلة أو للتصوُّف أو لغيرِها من “البِدَع” إلى “فِرقةٍ ناجِيَة”، أَوْ تعبئةِ العامّةِ كمِلّةٍ مستنفرةٍ ضدَّ الدّولةِ الفاطميّةِ تارةً أخرى. ويُمكنُنا أنْ نُحدِّدَ بدقّةٍ متى نَشأَ المذهبُ الإثنَيْ عشري وتحوَّلَ إلى مذهبٍ فِعلًا في التاريخِ أيضًا في المرحلةِ التاريخيّةِ نفسِها. ولكِنْ، يَصعُبُ أكثرَ تحديدُ متَى تَحوَّلَ أتباعُه إلى طائفةٍ.

“ويُمكنُنا القوْلُ إنّه تَبلوَرَ أوّلًا مذهبًا ضدَّ الإسماعيليّة وليس ضدَّ السُنّة، ولكنَّ تحوُّلَه الرئيسَ بوصفِه طائفةً جَرى بين مدٍّ وجزْرٍ، وتحوّلاتٍ كبرى ذاتِ علاقةٍ بالتغيُّراتِ السكّانيةِ والجغرافية، ولكنَّه صعدَ على مسارِ التطيِيفِ بمَعنى تحويلِه إلى ممارساتٍ يمكنُ لجماعةٍ كبيرةٍ من البشَرِ الالتزامُ بها، في خِضمِّ الصراعِ بين الدّولةِ العثمانيّةِ والدّولةِ الصفَويّةِ على العراق. وهذا هو الأخطرُ والأكثرُ تأثيرًا، على الرغم من فُصولِ السّلامِ والمُعاهداتِ الدوليةِ بين العثمانيِّين والإيرانيِّين”(5).

أما مرحلة تحوُّلُ الطوائفِ الاجتماعيّةِ في جبل لبنان إلى نوْعٍ من الطوائفِ السياسيةِ معَ إعادةِ تعريفِ الغربِ أو استغلالِه لنظامِ الامتيازاتِ ولحمايةِ الطوائفِ في المراحلِ الأخيرةِ من تاريخِ الدولةِ العثمانيةِ، ثمّ تَسْيِيسِها تمامًا في النظامِ الطائفي السياسي الوحيدِ في المنطقةِ العربيّةِ في لبنان منذُ نشوءِ نظامِ المتصرفيّة وحتّى الآن، فهي المرحلة الحديثة من مراحل تجسيد الطائفية السياسية التي لعبَ الاستعمار عامة والفرنسي خاصة دورا كبيرا فيها، على الرغم مِنْ أنَّ الدستورَ اللبنانيَّ الراهنَ المنبثِقَ عن اتّفاقِ الطائف يقومُ على ضرورةِ إلْغاءِ الطائفيةِ السياسية، ولكنّه يعيدُ إنتاجَها.

“وحتّى في التاريخِ اللبنانيّ ما بعدَ الاستقلالِ بعدّةِ سنواتٍ كان التوزيعُ الطائفيُّ عرْفًا، وكان يمكنُ لمسيحي أرثوذكسي مثلَ حبيب أبو شهلا في عامِ 1947 أنْ يشغَلَ منصبَ رئيس مجلسِ النوّاب، لكنّ الدولةَ اللبنانيةَ مَأْسسَت المحاصَصةَ الطائفيةَ في بناءِ أجهزتِها، كمَا مَأْسَست تشكيلَ المجالسِ الطائفيةِ ذاتِ السلُطاتِ في نطاقِ طوائفِها بأَعلى بكثيرٍ ممَّا مارسَتْه سلطاتُ الانتدابِ الفرنسي التي زَرَعت عمليةَ المَحاصصةِ الطائفية“(6).

أما بخصوص العراق فإنه لمما يلفت الانتباه إلى أنه ورغم بقائه على مدى زمني طويل موضع الصراع العثماني الصفوي، ورغم كونه موطن تجسُّد المذاهب وتطييفها تاريخيا، ورغم أنه خضع للاستعمار البريطاني الذي لا شك في أنه عمل فيه بنفس ما عملته فرنسا في لبنان، إلا أنه بمراجعةُ تاريخِ الطوائفِ والطائفيّةِ في العراق يمكننا الاستنتاجُ بسهولةٍ أنَّه ليس له تاريخٌ في الطائفيّةِ السياسيّةِ، على الرغمِ من أنَّه لَمْ يَخْلُ مِن الخصومةِ الطائفيةِ، وأنَّ تحويلَ الطائفيّةِ الاجتماعيّة إلى طائفيّةٍ سياسيّةٍ فيه هو مِنْ نتائجِ التدخُّلِ الأميركي في العراق وضَرْبِ الدّولة، والتدخُّلِ الإيراني في المعارضةِ العراقيةِ قبلَ ذلك، وبعدَه في النظامِ الذي قامَ بعدَ الاحتلال.

“ولمْ يتحوَّل النظامُ العراقيُّ إلى نظامٍ سياسيٍّ طائفيٍّ دستوريًّا، بَلْ حصلَ ما هو أَسوَأُ؛ فالنظامُ الطائفيُّ الدستوريُّ يَمنَعُ التحوُّلَ الديمقراطي، ويصلبُ المحاصصَةَ لتصمُدَ في وَجْهِ المتغيّراتِ حتّى الديموغرافية، ولكنَّه يضمَنُ على الأقلِّ تمثيلَ الأقلّياتِ وحقوقَها، وغالِبًا ما يحمِيها التوافقُ الطائفيُّ المنظَّمُ إلى أَنْ تَثبتَ هشاشتُه؛ بينما فِي العراقِ جرَى تبنِّي نظامٍ ديمقراطي مِنْ حيثُ الشّكْل،  فرضه الاحتلال وفرض معه تنظيم السكّانِ سياسيًّا على أساسٍ طائفيٍّ، وتعامُلِ الدولةِ معَهم على الأساسِ نفسِه، ما جعَلَ الديمقراطيةَ أداةً في تطيِيفِ الدولةِ وأجهزةِ القمْعِ مع تهميشِ الطوائفِ الأخرى. وهذا بالطبعِ أَسوَأُ مِن النظامِ الطائفي. إنّها سياسةٌ طائفيةٌ تُسخِّرُ الديمقراطيةَ الشكليّةَ ولا تقدِّمُ أيَّ حمايةٍ للأقلّياتِ على أنواعِها. وفي العراقِ اعترف مجلس الحكم بالكردِ كقوميةٍ مع أنَّ معظمَهُم سُنّةٌ، بينَما عُدَّ العربُ شيعةً وسنَّة”(7).

والخلاصة أنه قد يَستغربُ حتّى جزءٌ من الباحثينَ إن قلنا أنَّ الطائفيّةَ بمعناها المقصودِ في الخطابِ السياسي العربي في عصرِنا هذا هي ظاهرةٌ حديثة ولا جذور تاريخية حقيقية لها. فالطائفيّةُ التي يجري الحديثُ عنْها هي بالتحديدِ أتباع الدينِ، أو المذهبِ المعيَّنِ من حيث كونهم جماعةً تمثِّلُ امتدادًا أو تواصلًا تاريخيًّا “أي أنَّ لها تاريخًا”، وأنها ذاتَ حدودٍ اجتماعيّةٍ، وأن لها ناطقون باسْمِها “سواءٌ أكانوا علمانيِّين، أمْ رجالَ دِين”، يَذودُونَ عنْها ويصيغون مَصالحَها بِلُغةِ التعايشِ والخُصومةِ مع جماعاتٍ أُخرى.

“ويخلِقُ هذا تصوُّرًا عَنْ كيانٍ له أُسطورةُ مَنْشأ، وسرديةٌ تتراوَحُ بين صَوْغِ مشاعرِ الغُبْنِ ومَشاعرِ الافتخارِ والكِبْرياء. ولكَيْ يَثبتَ التواصلُ التاريخي، غالبًا ما تُسقَطُ على الماضي مصطلحاتُ الطائفةِ في فهمِ ذاتِها ومحيطِها في الحاضر. وهذا ممَّا يمكن وصفه في اللُّغةِ التاريخيةِ النقديةِ بالمغالطةِ الزمنية، أو اللازمنيّةِ التاريخية”(8).

والأهمُّ من هذا كلِّه أنَّ سياقَ الطائفيّةِ السياسيةِ بمعناها التحاصصي المحدَّدِ، يرتبطُ بمرحلةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ نَشأتْ فيها الدولةُ الوطنيةُ والجماعةُ القوميةُ، وأصبحَ ممْكِنًا الحديثُ عن عصبيةٍ لقطاعاتٍ فيها تقومُ على الدينِ والمذهبِ، وأَصبحَ يُمكنُ تصوّرُها والمطالبةُ بحصّةٍ في الدولة، حتّى حيثُ لم تنشَأ الدولةُ بَعد، أيْ قبلَ الاستقلال. فتختلِفُ الطائفيةُ السياسيّةُ المعاصرةُ عن الطائفيةِ في نظامِ المِلَلِ العثماني، في أنَّها تقومُ على المحاصَصةِ السياسيّةِ المؤسسيةِ أو شِبْهِ المؤسسيةِ للطّوائف، بينما كان نظامُ المِلَلٍ إطارًا تنظيميًّا قد يَنطوِي على التهميشِ لكنّه لا يَنطوي قَطُّ على المحاصَصةِ وترسيمِها.

 

ثالثا: أسباب النزاعات “الطائفية” المعاصرة في المجتمعات العربية.

يعاني المجتمع الطائفي من نقص فادح في الاندماج الاجتماعي، وخلل بيّن في الإدماج السياسي والتشاركية، وتفاوت فاضح في توزيع الثروات وتكافؤ الفرص، نظرًا لنشوء نظام سياسي يتكون نتيجة محاصصة أهلية “طائفي” للسلطة، وقد يتعايش مع بُنى ومؤسسات عصبوية لا يستطيع مغالبتها أو إخضاعها لسلطة الدولة. وهكذا تبدأ المشكلة الطائفية “من هذه اللحظة التي تنتقل فيها الطائفة من تضامن يولده شعور جمعي بالاشتراك في دين أو مذهب، إلى كيان مغلق يبحث لنفسه عن حصة من السلطة والدولة لا تتحقق إلا بإعادة تعريف الشعب والدولة على نحو جديد مختلف.

وفي ذلك يرى “عبد الإله بلقزيز” أن “مشكلة الطائفية ليست في وجود طوائف ومشاعر طائفية لدى جماعات اجتماعية بعينها، في مجتمع ما من المجتمعات، وإنما هي في نظام سياسي مغلق، وغير تمثيلي، يعجز عن تقديم جواب مادي، اجتماعي وسياسي، عن مشكلة التمثيل والمشاركة السياسية، فيميل إلى التصرف بوصفه نظام أقلية في مواجهة جماعات أخرى”(9).

إن هذه الظروف الموضوعية التي أدت إلى ظهور وتشَكُّل “الطائفية” بهذه الدلالات، بدأت بالبروز خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي حين تجَلَّى التدخل الاستعماري كأهم عامل ومسبب للمشكلة الطائفية الحديثة، متمثلة في التيارات الطائفية المنحرفة التي تدعي الدين، والعلماء العصريون، والسفارات، إضافة إلى الاحتلال المباشر، أما أبرز أساليب التدخل فهي سياسة “فرّق تسد” التي ورثها الاستعمار من أسلافه الصليبيين.

يقول أنور الجندي في هذا المجال: “كان تأريخ الإسلام حافلاً بالخلافات والمساجلات الفكرية وبالصراع السياسي بين السنة والشيعة. وقد حرص الغزو الخارجي الممتد من الحروب الصليبية إلى اليوم على أن يغذي هذا الخلاف، وأن يعمق آثاره حتى لا تلتئم وحدة عالم الإسلام، وكانت حركة التغريب وراء الإيقاع بين السنة والشيعة وتفريق كلمتهم”(10).

أما عندما ننتقل إلى مستوى متقدم من مستويات تفسير أسباب النزاعات الطائفية، فإننا نجد أنفسنا أمام حزمة من المعالجات التي تجسِّد ضربا من ضروب النزاع حول تفسير أسباب النزعات الطائفية ومآلاتها، ومن ذلك طرح أسئلة من قبيل: هل يرجع السبب في تلك النزاعات إلى حضور الدين نفسه، أم إلى موقعه أم إلى تأويله أم إلى توظيفه؟ أم إن الأمر مرتبط من حيث المبدأ بالتركيبة الاجتماعية والثقافية، وبأزمة الحكم السياسي وانعدام توطين الدولة الحديثة؟ أي وفي المحصلة هل تنتمي “الطائفية” إلى الحقل الديني أم إلى المجال السياسي؟

مع التأكيد حتما على أن ظاهرة “الطائفية” إنما تأثرت وجودا وعدما، خفوتا واستفحالا “بالتفاعلات التاريخية التي خلفتها صدمة الحداثة، وبالسياقات التي أنتجها القرن التاسع عشر، وبالتحولات التي عرفتها الدولة العثمانية والمشرق العربي في الفترة نفسها، حين طُرح المشروع النهضوي العربي”.(11)

أ – دور الاستعمار في تغذية المسألة الطائفية:

تغذت المسألة الطائفية مع التدخل الأجنبي وفق سياسة فرّق تسد التي شن الاستعمار بواسطتها كأداة حرباً استباقية لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد كان يشكِّل الخطر الوحيد على مستقبل أوروبا آنذاك، وهذا ما أكَّده المبشر لورانس براون حين قال: “يجب أن يبقى المسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير”(12).

وقد عززت هذه المخاوف نظرية صراع الحضارات التي راحت تتأسَّس منذ ذلك التاريخ المبكر، إلى أن استفحلت مع حلول النص الثاني من القرن العشرين، ما استوجب وضع خطة من أجل تأجيج الصراع الطائفي والصراعات الفئوية على أنواعها من أجل تعميق الانقسامات والتجزئة في العالم الإسلامي فتحولت الطائفية وأخواتها إلى نظام تقسيم وفتنة ضد القومية وضد كل اتجاه وحدوي بل وحتى ضد الدين نفس .

ب – دور فشل الدولة في تشكيل هويتها السياسية في تأجيج الطائفية:

مع قيام أي مشروع وطني “مشروع دولة” لا بد من ابتكار “هوية وطنية” يقوم عليها ذلك المشروع، والنجاح بابتكارها هو عنوان آخر لنجاح فكرة الدولة، وغياب تلك الهوية أو تشظيها هو نتاجٌ حتمي لفشل فكرة الدولة ككيان قانوني مؤسساتي خدمي. على أن نجاح مشروع الدولة مرهون بسلامة معاييرها وأنظمتها وسياساتها، وهذا مرهون بدوره بقدرته على إنتاج “لأمة الدولة”، ولا يمكن أن تولد الأمة الدولة إذا ما فشلت الدولة في الاعتراف المتساوي بمواطنيها وحمايتهم وخدمتهم.

“فعندما تَؤَسَّس الدولة وفق الانتماءات والولاءات الضيقة، وعندما تَسْحَق مواطنيها بفعل الظلم واللامساواة، وعندما تكون رهينة الاحتكار العرقي أو الطائفي أو الحزبي أو الشخصي، تغيب المواطنة ويشيع التمييز ويستفحل الإقصاء بفعل الظلم والاستبعاد. وهنا تحيى الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية، بسبب فشل فكرة الانتماء والولاء والتضامن الوطني بين أعضاء الجماعة السياسية المكونة للدولة، وعندها سيرتد المواطن إلى الوراء بحثاً عن حاضن آخر يستوعبه ليوفر له الاعتراف والحماية، فتفشل مقومات الوحدة السياسية اللازمة لكيان الدولة، ويصبح التعايش صورياً هشاً، وأحياناً قسرياً قائماً على الإكراه المستند إلى القوة، فتتأسَّس الطائفية السياسية”(13).

 

 

 

ج – دور التفكُّك الاقتصادي في تغذية الطائفية:

تستمدُّ الطائفية قوتَها أيضا من تفكك دورة الحياة الاقتصادية الاجتماعية داخل الدولة القطرية وعلى امتداد العالم العربي، وذلك نتيجة التخلف وغياب السوق الاجتماعية، فتكيفت الرأسمالية والبنى الاقتصادية الريعية مع الواقع الطائفي وكَرَّسَته. مثال ذلك لبنان الذي أخفق في دمج الطوائف في حركة اجتماعية موحدة، فبرزت مؤسسات اقتصادية طائفية كالمصارف والشركات ومؤسسات صحية وخدماتية واجتماعية وأهلية للطوائف. إذ قد نجحت الطائفية في لبنان في أن تكرَّسَ كظاهرة اجتماعية لها جذور تاريخية عميقة تغذيها على جميع المستويات مرتكزات دستورية وقانونية وأسس اقتصادية وسياسية عامة متناقضة، ما جعل الطائفية هي أيديولوجية الدولة والبنية السياسية الأساسية لها. لا بل قد نجحت الطائفية في التغلب على الفرز الطبقي الذي لم يتمكن دائماً من خرق وحدة الطائفة المغلقة على عصبيتها ودورها ووظيفتها، نتيجة استمرار البنى الاقتصادية الاجتماعية ما قبل الرأسمالية وما قبل سيطرة الدولة القومية الاجتماعية.

“الطائفيةُ وأخواتُهاَ أذاً ليست كتلةً تاريخيةً متماسكةً عبرَ الزمنِ. ففي حالاتِ الحروبِ والاستنفارِ الغرائزيّ تتمكنُ السلطةُ الطائفية الدينيةُ والسياسيةُ من استنفارِ جمهورِها وتعبئةِ عناصِرها وطمسٍ مؤقتٍ للتناقضاتِ الموجودةِ في داخِلها. بينما العلمانية مدعوةٌ إلى دراسةِ الطائفيةِ في ظرفِها الاجتماعي، وفي بنيتِها الداخليةِ ما يظهرُ التناقضاتَ الذاتيةَ السياسيةَ والطبقيةَ والعائليةَ وغيرها، لذلك إن من أخطرِ المقولاتِ التي سادتْ في الحربِ الأهليةِ اللبنانيةِ مقولةُ الطائفةِ السياسيةِ أو الطائفةِ الطبقةِ والتي كانتِ تنظرُ إلى الطوائفِ في لبنان وكأنها كلٌّ متماسكٌ في اِتجاه انعزالي أو وطني واحد حسب موقعها، بينما الغوص في أعماق الطوائف يظهر التباين والتناقض الذي يساعد على إخراج الطائفة من انغلاقها وكانتونها”(14).

د – دور تراجع الفكرة القومية في بروز الطائفية:

مع تراجع الفكر القومي برزت الطائفية كظاهرة سياسية تفتِّت المجتمع، إلى جانب أخواتها المذهبية والقبلية والعائلية والاثنية وغيرها من الجماعات، بسبب أن غياب الهوية القومية الجامعة يدفع الأفراد والبُنى المجتمعية الصغيرة إلى البحث عن ذاتها وأناها لحمايتها في هويات فرعية، مثلت الهوية الطائفية السياسية إحدى أهمها على الإطلاق، لا بل أكثرها تدميرا، بسبب أن المجتمعات العربية وإن كان من الصعب تفتيتها على أسس هويات فرعية اثنية في الغالب، فإن الهوية القبلية بوصفها مخرجا اثنيا بدائيا إلى جانب الطائفة بوصفها مخرجا دينيا سياسيا، كانتا هما البديل المناسب والمؤَسَّس مجتمعيا ليسود العلاقات الهوياتية في المجتمعات العربية التي فقدت غطاءها القومي العروبي.

“وبالتالي فقد غدا من البديهي الاعتقاد بأنه “أن تكون عروبيا في أيامنا هذه يعني أن تَتَّخذَ الهوية العربية نقيضا لتسييس الهويات التفتيتية وعلى رأسها الهوية الطائفية، وأن تكون عروبيا يعني في أيامنا هذه أن تكون بشكل واع عربي الهوية، عابرا لكل هوياتك الفرعية المفتِّتَة”(15).

خلاصة العرض:

ارتبطت مصالح الإقطاعية والرأسمالية والنفوذ الأجنبي بالواقع الطائفي. فغدت الطائفية وسيلة ونتيجة. فهي وسيلة استعملها الإقطاعيون والحكّام والعثمانيون ودول الغرب وإسرائيل لإثارة الفتنة ومحاربة القومية. وكانت الطائفية في الوقت نفسه نتيجة لنفوذ الطبقات الحاكمة والاستعمار من أجل تأجيجها وبلورة كيانها وتعميق نفوذها وتجذيرها داخل المجتمع.

ولكن هل الطائفية ظاهرة خاصة بالمجتمعات العربية إلى درجة القول بأنها لعنة خاصة بالمجتمعات العربية، أم أن الأمر على غير هذه الشاكلة؟!

فقد أصبح التعدد الطائفي الذي ينبغي أن يُنظر إليه على أنه ثروة وطنية، وأنه الوضع الطبيعي الذي عرفته المجتمعات منذ قرون، وبنت من حوله نظمها الأخلاقية الرئيسة بما تعبر عنه من قيم التعايش والتسامح التاريخية التي ميزت المجتمعات العربية والاسلامية، يظهر وكأنه وضع نشاز يميز المجتمعات العربية ويفصلها عن المجتمعات الأخرى الطبيعية ويحط من قدرها وقيمتها الجوهرية.

والواقع، ليس تعدد الطوائف ولا استمرار البنيات العشائرية هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية ولا هو المسؤول عن تعثر مشاريع الاندماج الوطني وتقدم مشاريع التحول الديمقراطية. ولا يشكل كلاهما أي لعنة أبدية أو تاريخية. فجميع المجتمعات مكونة من جماعات متعددة ويمكن تجزئة كل المجتمعات إلى مجموعة لا نهائية من الأقليات الثقافية والدينية والعرقية والمهنية والجنسانية والحضرية والريفية وغيرها. والمجتمعات الصناعية المتقدمة أكثر تعددية اليوم طائفيا وعرقيا من المجتمعات العربية. وما تتميز به مجتمعات الصين والهند وغيرها من المجتمعات الآسيوية عموما يفوق بما لا يقاس ما تعرفه المجتمعات العربية التي تبدو في هذا المنظور مجتمعات شديدة التجانس والأحادية الثقافية.

وإذا كان لوجود أغلبية ثقافية أو دينية دور كبير في خلق شعور بالاستقرار والاستمرارية والثبات عبر التاريخ لدى المجتمعات، فدور الأقليات العابرة للمجتمعات والثقافات لا بديل عنه في تحقيق التفاعل الإنساني كناقل للمكتسبات التقنية والعلمية والفكرية عبر الحدود والبلدان والحضارات.

لقد كانت الطائفية موجودة على الدوام في المجتمعات العربية، وستظل موجودة في المستقبل وهي موجودة أيضا في بلدان عديدة تعيش في ظل نظم ديمقراطية. وليست هي التي تشكل العقبة أمام قضية التحويل الديمقراطي. إنها تتحول إلى مشكلة عندما تصبح الإطار الوحيد للتضامن بين الأفراد، وعندما يتغلب الانتماء للطائفة أو العشيرة على الانتماء للجماعة الوطنية.

ولا يحصل ذلك إلا عندما ينهار إطار التضامن الوطني الذي يجمع الأفراد على صعيد أعلى وأشمل وتزول فعالية الرابطة الوطنية، وهو نتيجة مصادرة فريق واحد للدولة وللسلطة الوطنية ووضعهما في خدمة مصالحه الخاصة. وهكذا تكف الدولة عن أن تلعب دور الحاضنة العامة لجميع الأفراد بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الطائفية. ولذلك يكفي أن نعيد إلى الدولة طابعها الوطني أي العمومي حتى يتراجع الانتماء الطائفي إلى الدرجة الثانية ولا يصبح هناك تناقض عدائي بين الرابطة الوطنية والرابطة الطائفية أو الاثنية.

والمقصود هو أن التركيز الدائم والمستمر في تحليل الأزمة الوطنية على التعددية الطائفية والقومية وتحميلها مسؤولية فشل النخب العربية الحديثة الثقافية والسياسية في بناء أطر وطنية حقيقية يهدفان إلى التغطية على القضايا الرئيسية وتبرير الهرب من مواجهة المسؤوليات التاريخية وما ينطوي عليه من رفض النخبة السياسية المراجعة النظرية والعملية للأفكار والسياسات والاستراتيجيات التي أودت بمشروعات بناء الدول الوطنية والقومية العربية.

وبالعكس ينبغي أن يصب التركيز على عملية استرجاع فكرة الدولة وموقعها في الحياة الوطنية باعتباره السبيل للخروج من الطائفية المرتبطة به في الوقت نفسه. باختصار، إن التعددية بكل وجوهها وأشكالها ليست خطأ تاريخيا ولا بنية نشازا، ولا امرا كارثيا وخاصا بنا نحن العرب، بل هي الأمر الطبيعي والشائع أيضا في أي مجتمع متمدن يمكن أن يُخَفَّضَ منطقُ انتظامه إلى مستوى منطق الأسرة أو العشيرة أو الطائفة الواحدة. وهي لا تنتج طائفية سياسية بالضرورة وليست هي التي تفسِّرُ ظهورها.(16)

 

 

 

 

 

 

هوامش العرض:

1 – (“الطائفية والمذهبية السياسية الحديثة – هشام عوكل – على الرابط التالي:

http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=24007“.)

2 – (“الطائفية في الوطن العربي، تعريفها، وأسباب ظهورها – د. موسى  الحسيني – على الرابط التالي:

http://www.albasrah.net/ar_articles_2013/0713/mosa_140713.htm).

3 – (“القومية والطائفية – سركيس أبو زيد – على الرابط التالي:

http://www.tahawolat.com/cms/article.php3?id_article=2049).

4 – (جذور المسألة الطائفية في الإسلام” – علي المؤمن – على الرابط التالي:

http://www.siironline.org/alabwab/maqalat&mohaderat(12)/865.htm).

5 – (“المسألة الطائفيّة وصناعة الأقلّيات في المشرق العربي الكبير – د. عزمي بشارة – على الرابط التالي:

 http://www.arab48.com/مقالات-وآراء/مقالات-وآراء/2014/09/14/المسألة-الطائفيّة-وصناعة-الأقلّيات-في-المشرق-العربي-الكبير-عزمي-بشارة).

6 – (“المسألة الطائفيّة وصناعة الأقلّيات في المشرق العربي الكبير – د. عزمي بشارة – على الرابط التالي:

 http://www.arab48.com/مقالات-وآراء/مقالات-وآراء/2014/09/14/المسألة-الطائفيّة-وصناعة-الأقلّيات-في-المشرق-العربي-الكبير-عزمي-بشارة).

7 – (“المسألة الطائفيّة وصناعة الأقلّيات في المشرق العربي الكبير – د. عزمي بشارة – على الرابط التالي:

 http://www.arab48.com/مقالات-وآراء/مقالات-وآراء/2014/09/14/المسألة-الطائفيّة-وصناعة-الأقلّيات-في-المشرق-العربي-الكبير-عزمي-بشارة).

8 – (“المسألة الطائفيّة وصناعة الأقلّيات في المشرق العربي الكبير – د. عزمي بشارة – على الرابط التالي:

 http://www.arab48.com/مقالات-وآراء/مقالات-وآراء/2014/09/14/المسألة-الطائفيّة-وصناعة-الأقلّيات-في-المشرق-العربي-الكبير-عزمي-بشارة).

9 – (“المسألة الطائفية في الفكر العربي – سلمان بو نعمان – على الرابط التالي:

 http://fairforum.org/research/المسألة-الطائفية-في-الفكر-العربي/“.).

10 – (” جذور المسألة الطائفية في الإسلام” – علي المؤمن – على الرابط التالي:

http://www.siironline.org/alabwab/maqalat&mohaderat(12)/865.htm).

11 – (“المسألة الطائفية في الفكر العربي – سلمان بو نعمان – على الرابط التالي:

http://fairforum.org/research/المسألة-الطائفية-في-الفكر-العربي/“).

12 – (“الطائفية والمذهبية السياسية الحديثة – هشام عوكل – على الرابط التالي:

http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=24007“).

13 – (“الطائفية والمذهبية السياسية الحديثة – هشام عوكل – على الرابط التالي:

http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=24007).

14 – (“الطائفية والمذهبية السياسية الحديثة – هشام عوكل – على الرابط التالي:

http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=24007“).

15 – (“الطائفية والمذهبية السياسية الحديثة – هشام عوكل – على الرابط التالي:

http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=24007).

16 – (“ عن لعنة الطائفية في المجتمعات العربية – بتصرُّف واختصار – برهان غليون – على الرابط التالي:

http://www.voltairenet.org/article127638.html).