إعداد: الدكتور توفيق المديني
تعتبر مسألة توزيع الدخل القومي والثروة في كل البلدان العربية، من أهم الموضوعات المطروحة على بساط البحث والنقاش لدى الحركات السياسية العربية التي تناضل من أجل خيارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تخدم مصلحة بناء اقتصاد وطني منتج، وتوزيع عادل للثروة ولمنافع التنمية. ويميز الاقتصاديون عادة بين كل من التوزيع الأولي للدخول وهو نتاج عوائد عناصر الإنتاج المختلفة إذا تركت دون تدخل من جانب الدولة، وإعادة توزيع الدخول الناجمة عن تدخل الدولة المباشر في الاقتصاد (عن طرق أساليب قسرية مثل التأميم أو الإصلاح الزراعي أو تنظيم الأسعار) أو التدخل غير المباشر (عن طريق الضرائب والنفقات العامة والإعانات الاجتماعية العينية والنقدية).
إن علاقة توزيع الدخل، والثروة، والنمو في الدول العربية كانت و لا تزال محل اهتمام الأوساط الشعبية والرسمية على السواء، نظرًا لأهميتها للاقتصاد الوطني، ليس من باب مواجهة مشكلاته الراهنة فحسب، و إنما أيضًا من أجل رسم استراتيجية المستقبل..وازداد هذا الاهتمام أكثر مع تفاقم المشاكل الاقتصادية الناجمة عن اندماج معظم الاقتصاديات العربية في نظام العولمة الليبرالية، وخضوعها لوصفات وشروط المؤسسات الدولية المانحة، المتمثلة بتطبيق برنامج للإصلاح والتكيف الهيكلي العزيز لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والذي جوهره الليبرالية الاقتصادية الجديدة، ليقدم إلى البلدان النامية عموماً والمدينة منها بوجه خاص، ويلقي هذا البرنامج اللوم على السياسية الحكومية التدخلية في معرض تحليله للأزمة الاقتصادية ويرتكز على أن هذه السياسة عديمة الجدوى، وقدم البديل على أنه اقتصاد حرية السوق، وإطلاق المبادرات الفردية وإعلاء شأن المنافسة، وإزالة القيود أمام المبادلات التجارية. وتمثلت أشد تيارات الليبرالية تطرفاً، تحت شعار الحرية الاقتصادية، بالعمل في اتجاهين:
الأول: تحجيم دور الدولة وتقليص تدخلها في النشاط الاقتصادي والاجتماعي وتخفيض الإنفاق العام. وتجميد الأجور وإلغاء الدعم التمويني وإلى غير ذلك.
والثاني: المناداة بإعادة توزيع الدخل والثروة لصالح أصحاب رؤوس الأموال، بتخفيض الضرائب على الدخول والثروات الكبيرة، وبيع مؤسسات القطاع العام. أي الخصخصة.
وعلى الرغم من أن الاهتمام بقضايا توزيع الدخول ومستويات الفقر قد شهد زخما كبيرا في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، فإنّ الاهتمام بقضايا التوزيع في الدول الصناعية المتقدمة لم يقابله اهتمام مماثل في الدول العربية التي لا تزال تشهد أكثر مستويات عدم العدالة في توزيع الدخول.
ونحاول أن نقدم بعض التعاريف المهمة عن توزيع الثروة وتوزيع الدخل، لكي تساعدنا في دراستنا هذه.
1-أهمية مسألة توزيع الدخول
أكد الاقتصادي الإنجليزي المشهوردافيد ريكاردو David Ricardoفي مقدمة كتابه «مبادئ الاقتصاد السياسي والضريبة» إن تحديد القوانين التي تنظم التوزيع هي المشكلة الرئيسية في علم الاقتصاد السياسي». ويدعم ذلك قول الاقتصادي الأمريكي جون كينيث جالبرثجالبرايث أنه لا توجد مسألة في الاقتصاد السياسي أهم من الانعكاسات المترتبة على إجراءات توزيع الدخل. ويصف الاقتصادي السويدي جان تنبرجنيان تينبرغن الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد مسألة التوزيع بأنها العمود الفقري للسياسة الاقتصادية، وإن لاحظ غياب تفسير علمي مقبول لاتجاهات التوزيع في الدول المختلفة بسبب إهمال الاقتصاديين لهذه المسألة فترة طويلة ().
2-أهمية توزيع الثروة
يعني توزيع الثروة أن يتمّ توزيع الدخل القوميّ لجميع وسائل الإنتاج وعائدات القطاعات الإنتاجيّة الصناعيّة، والزراعيّة، والتجاريّة العامّة في الدولة الواحدة على رعاياها بالشّكل الذي يضمن تأمين معيشة متوازنة لهم، وتكفل دساتير الدول هذا الحقّ إضافة إلى حقوق أخرى. أما مصطلح إعادة توزيع الثروة فيعني اقتطاع جزء من أموال الأغنياء وردّها إلى الفقراء من أجل تضييق الفجوة بين الشريحتين عبر عائدات الضرائب التي تؤخذ من الأعلى دخلاً لتنفقها الدّولة على تحسين أوضاع الأفقر.
لعلّ أهمّ الأدوات التي تستخدمها الدّولة في التّوزيع العادل للثّروة هي الضريبة، حيث يجب أن تتضمّن قوانين الدول ودساتيرها تشريعات ضريبية مؤهّلة، ومدعّمة بقوة الإجبار في التنفيذ. ويجب أن تلحظ هذه التشريعات العدالة في التكليف الضريبي بناء على مستويات الدخول وطبيعة المكلّف القانونيّة، كما يتحتّم تشكيل أجهزة ذات سلطة قانونيّة وكادر مؤهّل لاحتساب هذه الضرائب بالشّكل الذي يحدّ أو يقلّل من التهرّب الضريبيّ.وعادة ماتقوم الدول بإنفاق متحصّلاتها الضريبيّة على جوانب النفع العام وبما يكفل إعادة التوزيع العادل للثروة، ويعد أهمّ هذه الجوانب هو تغطية الدّعم الذي تقدّمه الدّولة لبعض السلع والخدمات ذات الطبيعة الاستراتيجية مثل الطحين والمحروقات والأدوية والخدمات الطبيّة والتّعليم ().
ونحن نستعرض أهمية تحديد المفاهيم حول توزيع الدخل وتوزيع الثروة، علينا الفرق الواضح بين الإنفاق والدخل مع وجود ترابط بينهما، وكذلك الفرق الواضح أيضا بين الدخل والثروة الممتلكة مع وجود ترابط بينهما كذلك، وبالتالي فإنّ الفروق على صعيد الإنفاق لا تترجم كليا الفروق على صعيد الدخل والثروة الممتلكة.
3-الأساليب العلمية لقياس توزيع الدخول
إن التفاوت في توزيع الدخل هو الصورة السائدة في جل دول العالم المتقدم والمتخلف على السواء، وإن كانت درجة التفاوت تختلف من دولة لأخرى، ومن وقت لآخر داخل الدولة الواحدة. ونعني بالتفاوت عدم المساواة في توزيع الدخل بين أفراد المجتمع حيث توجد فئة قليلة تحصل على أعلى نسبة من الدخل القومي، وهذه هي الصورة المتطرفة لتوزيع الدخل ().
من أبرز أدوات القياس المستخدمة من علماء الاقتصاد والإحصاء لقياس مدى عدالة توزيع الدخول في بلد من البلدان:
*-منحنى لورنز : يعتبر منحنى لورنز إحدى أشهر الوسائل للتعبير عن التباين في توزيع الدخل بيانيًا. ويعرف بأنه العلاقة بين النسبة التراكمية للدخل وهي التي تشكل المحور العمودي، والنسبة التراكمية للوحدات مستلمة الدخل، وهي التي تحتل المحور الأفقي، وتمثل وترالمربع الناتج خط المساواة.
*-المدخل الوظيفي: ويقوم على أساس النظرة الوظيفية التي تقسم الدخل القومي وفقا لعوائد عناصر الإنتاج: عوائد الملكية (الريوع) والربح والفائدة والأجور، وهي نظرة يتبناها أنصار المدرسة الاقتصادية النيوكلاسيكية.
*-المدخل الرياضي: ويفترض استجابة توزيع الدخول لقانون طبيعي مقتضاه انتظام وتطابق شكل توزيع الدخول في مختلف دول العالم، وهو اتجاه يتبناه بعض الاقتصاديين الرياضيين والاحصائيين وأهمهم الاقتصادي الإيطالي فيلفريدو باريتو.
*-المدخل الاجتماعي الاقتصادي وهو يسعى لتفسير اتجاهات توزيع الدخول في ضوء تأثير المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية. ومن رواد هذا التوجه الاقتصادية الأمريكية إرما أدلمانIRMA ADELMAN في دراسة مشتركة مع تافت موريس لصالح البنك الدولي نشرت عام 1973 وأبرزت أن أكثر المتغيرات تأثيرا في عدالة توزيع الدخول هي التعليم وتدخل الدولة الاقتصادي وإذابة الفوارق بين الريف والمدينة والصناعات التقليدية والصناعات الحديثة ومستوى الدخل الفردي المتوسط وقوة النقابات العمالية والمهنية.
*-المدخل متعدد الأبعاد: وقد تبناه الباحث المصري أحمد جمال الدين موسى في رسالته لدكتوراه الدولة عن دور الدولة في توزيع الدخول التي نوقشت في جامعة كليرمو فيران الفرنسية في فبراير 1984. وهذا المدخل يقوم على نظرة متكاملة للمتغيرات المؤثرة على توزيع الدخول في أربعة مستويات: المجتمع ككل، المستوى الإقليمي والقطاعي، العائلة، الفرد ().
4-العولمة الرأسمالية تعمق الهوّة بين الأغنياء والفقراء
يلمس المتتبع لقياس اللامساواة في العالم، تلك اللامساواة الناجمة عن ممارسات الرأسمالية العالمية، تطورات مذهلة في إطار عولمة اقتصاد العالم، فقد كان معدل قياس اللامساواة في العالم عام 1900 بنسبة 1 إلى 20، ثم أصبحت هذه النسبة عام 1945 من 1 إلى 30. وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت 1 إلى 60. أما اليوم فقد وصلت إلى أرقام خيالية. إن حصة 20% من البشر (وهم الأكثر غنى) ارتفعت من 60% إلى 80% من مجمل الإنتاج العالمي خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي. إن العولمة من خلال سيادة اقتصاد السوق، إنما هي التطوير المعاصر لهيمنة الرأسمالية العالمية، وسيطرة الليبرالية الجديدة، وهي مشروع يهدف إلى إيجاد ترتيبات جديدة على صعيد توزيع الثروة عالياً على نحو غير متكافئ يؤكد سيطرة الاحتكارات، الأمر الذي أدى إلى زيادة الفجوة بين الشمال والجنوب.
إن ميل الاقتصاد العالمي للتمركز والتهميش، بحكم طبيعته وهيكليته، تبدو واضحة من خلال التأكيد على التفوق المطلق والنسبي في التكنولوجيا المدنية والعسكرية (وخاصة أسلحة الدمار الشامل)، وما يترتب على ذلك، فضلاً عن احتكار الدول الصناعية الكبرى للتكنولوجيا العالية، وللمؤسسات المالية، وللشركات العملاقة متعدية الجنسية، إلى جانب سيطرتها على المنظمات الدولية واحتكارها لوسائل الإعلام العملاقة، في مقابل تهميش بلدان وشعوب العالم الثالث المهمشة أصلاً أو السائرة في طريقها إلى التهميش. إن ما هو قائم الآن من مظاهر العولمة، إنما هو مرحلة من مراحل تطور النظام الرأسمالي، والسمة البارزة في هذه الظاهرة هو اندفاع الرأسمالية نحو تعظيم أرباحها عبر التوسع الرأسمالي والتمركز والتركز، لأنه إذا لم يحصل ذلك فإن الاقتصاد الرأسمالي سيظل معرضاً للأزمات.
مع نهاية شهر أغسطس (آب) الماضي ()، أصدر مركز «عالم الثروة الجديد للدراسات» تقريره الأحدث، عن الدول والشعوب الأكثر ثراءً في العالم لعام 2016، والذي يقيس أيضًا أسوأ وأفضل البلاد حول العالم في توزيع الثروة، بحسب نسبة ما يمتلكه الأثرياء من ثروة البلاد. ويعتمد هذا المقياس على حساب الثروة الإجمالية، التي يمتلكها كل المواطنين في كل دولة محل الدراسة، ويُقصد بالثروة هنا، الأصول الصافية للشخص، والتي تشمل جميع الأصول من الممتلكات والأموال النقدية، والأسهم والمصالح التجارية، وقد استبعدت الدراسة الأموال الحكومية والدعم الحكومي من مقياسها.
وشهد مؤشر الدول العشرة الأكثر ثراءً في العالم، بحسب الثروة الإجمالية للأشخاص، تنوعًا كبيرًا بين عدد من قارات العالم، في غياب لقارتي أفريقيا وأميركا اللاتينية، وكانت الأكثرية أوروبية، بوجود أربع دول من القارة العجوز، تليها قارة آسيا بثلاث دول، وبعد ذلك قارة أمريكا الشمالية بدولتين، وأخيرًا أستراليا.
وتصدرت الولايات المتحدة الأميركية المؤشر، بإجمالي ثروة أفراد يبلغ 48.9 تريليون دولار أمريكي في يونيو (حزيران) 2016، بزيادة 1.2 تريليون دولار عن نفس الشهر من العام الماضي. وجاءت الصين ثانيًا، بإجمالي ثروة أفراد يبلغ 17.4 تريليون دولار أمريكي، في يونيو (حزيران) 2016، بزيادة 0.4 تريليون دولار أمريكي عن نفس الشهر من العام الماضي، فيما حلّت اليابان بالمركز الثالث في المؤشر، بإجمالي ثروة أفراد يبلغ 15.1 تريليون دولار أمريكي، في يونيو (حزيران) 2016، بزيادة 0.1 تريليون دولار أمريكي عن نفس الشهر من العام الماضي.
وجاء ترتيب العشر دول الأوائل كالتالي:
الولايات المتحدة الأمريكية: إجمالي ثروة أفراد يبلغ 48.9 تريليون دولار في يونيو (حزيران) 2016.
الصين: بإجمالي ثروة أفراد يبلغ 17.4 تريليون دولار في يونيو (حزيران) 2016.
اليابان: بإجمالي ثروة أفراد يبلغ 15.1 تريليون دولار في يونيو (حزيران) 2016.
المملكة المتحدة البريطانية: بإجمالي ثروة أفراد يبلغ 9.2 تريليون دولار في يونيو (حزيران) 2016.
ألمانيا: بإجمالي ثروة أفراد يبلغ 9.1 تريليون دولار في يونيو (حزيران) 2016.
فرنسا: بإجمالي ثروة أفراد يبلغ 6.6 تريليون دولار في يونيو (حزيران) .2016
الهند: بإجمالي ثروة أفراد يبلغ 5.6 تريليون دولار في يونيو (حزيران) 2016.
كندا: بإجمالي ثروة أفراد يبلغ 4.7 تريليون دولار في يونيو (حزيران) 2016.
أستراليا: بإجمالي ثروة أفراد يبلغ 4.5 تريليون دولار في يونيو (حزيران) 2016.
إيطاليا: بإجمالي ثروة أفراد يبلغ 4.4 تريليون دولار في يونيو (حزيران) 2016.
5-الشعوب الأكثر ثراءً في العالم ()
وفي هذا المقياس الذي أوردته دراسة المركز، يُصنف الشعوب الأكثر ثراءً في العالم، من خلال قياس متوسط نصيب المواطن من الثروة. وسيطرت الدول الأوروبية على قائمة الشعوب العشرة الأكثر ثراءً في العالم، بوجود سبع دول أوروبية في القائمة، ذلك بالإضافة إلى دولة آسيوية، وأخرى من قارة أمريكا الشمالية ، وثالثة من قارة أوقيانوسيا، واستمر الغياب الأفريقي واللاتيني عن تلك القائمة أيضًا.
وتصدرت دولة موناكو القائمة، بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة، يبلغ مليونًا و556 ألف دولار أمريكي، فيما حلّت دولة ليشتنشتاين في المركز الثاني بفارق كبير عن موناكو، بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة يبلغ 610 آلاف دولار أمريكي، وقد أرجع المركز سبب تقدم كلٍّ من موناكو وليشتنشتاين إلى اعتبارهما ملاذات ضريبية، وأوردت الدراسة أن الناس في موناكو لا يدفعون ضريبة على الدخل، مما يجذب الأثرياء للانتقال إلى هناك، وتوسيع استثماراتهم وأعمالهم في البلد.
وجاءت سويسرا في المركز الثالث، بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة، يبلغ 284 ألف دولار أمريكي، وذكرت الدراسة أن المملكة المتحدة تمكنت من الصعود بشكل مفاجئ في القائمة، لتصل إلى المركز التاسع، بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة، يبلغ 147 ألف دولار أمريكي، بسبب ارتفاع أسعار وقيمة العقارات في بريطانيا.
وجاء ترتيب الشعوب الأكثر ثراءً في العالم، وفقًا لمتوسط نصيب كل فرد من الثروة، كالتالي:
موناكو: بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة، يبلغ مليونًا و556 ألف دولار أمريكي.
ليشتنشتاين: بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة يبلغ 610 آلاف دولار أمريكي.
سويسرا: بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة، يبلغ 284 ألف دولار أمريكي.
أستراليا: بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة، يبلغ 203 آلاف دولار أمريكي.
النرويج: بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة، يبلغ 193 ألف دولار أمريكي.
لوكسمبرج: بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة، يبلغ 179 ألف دولار أمريكي.
سنغافورة: بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة، يبلغ 157 ألف دولار أمريكي.
الولايات المتحدة الأمريكية: بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة، يبلغ 151 ألف دولار أمريكي.
المملكة المتحدة: بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة، يبلغ 147 ألف دولار أمريكي.
السويد: بمتوسط نصيب كل مواطن من الثروة، يبلغ 143 ألف دولار أمريكي.
6-أفضل دول العالم في عدالة توزيع الثروة
وأما عن هذا المقياس الذي أوردته دراسة المركز، فيعتمد على نسبة ما يمتلكه المليونيرات من الثروة الإجمالية للدولة. وبلغ متوسط تلك النسبة عالميًّا35%، وهي نفس النسبة التي يسيطر عليها مليونيرات بريطانيا من ثروة المملكة المتحدة، بزيادة 3% عن الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يسيطر المليونيرات بها على 32% من الثروة الأمريكية.
وقد سيطرت الدول الأوروبية، على قائمة أكثر عشر دول عدالةً في توزيع الثروة، بوجود خمس دول أوروبية، ذلك بالإضافة إلى دولتين من قارة آسيا، وآخرتين من قارة أوقيانوسيا، ودولة من قارة أمريكا الشمالية.
واحتلت اليابان صدارة ترتيب الدول الأكثر عدالة في توزيع الثروة، بسيطرة المليونيرات بها على 22% من إجمالي الثروة في البلاد، فيما جاءت نيوزيلاندا في المركز الثاني، بسيطرة المليونيرات بها على 26% من إجمالي الثروة في البلاد، وجاءت النرويج في المركز الثالث، بسيطرة المليونيرات بها على 27% من إجمالي الثروة في البلاد، وأعقبت النرويج دول أستراليا وكندا وألمانيا والسويد، بسيطرة المليونيرات بهم على 28% من إجمالي ثروة كل بلد على حدة، فيما ارتفعت تلك النسبة لتصل إلى 29% لدول الدنمارك وكوريا الجنوبية وفنلندا.
في المقابل، تذيلت روسيا ترتيب الدول الأكثر عدالة في توزيع الثروة، بسيطرة المليونيرات فيها على 62% من إجمالي الثروة في البلاد. وفي أول ظهور عربي، تفوقت السعودية على روسيا، بسيطرة المليونيرات فيها على 58% من إجمالي الثروة في البلاد، وفي أول ظهور أفريقي، تفوقت نيجيريا على السعودية، بسيطرة المليونيرات بها على 56% من إجمالي الثروة في البلاد.
وفي أول ظهور لاتينيي جاءت البرازيل مع تركيا في نفس المرتبة، بسيطرة المليونيرات في البلدين على 55% من إجمالي الثروة في البلاد، وتقلصت تلك النسبة في الهند لتصل إلى 54%، فيما انخفضت هذه النسبة لدولة مثل الإمارات لتصل إلى 42%().
7-التفاوتات في توزيع الدخل والثروة في الوطن العربي
إذا كانت الدول الأوروبية، ولا سيما منها دول شمال أوروبا، تتمتع بأحسن توزيع للدخل بين دول العالم، حيث يستدل من الأرقام المتاحة أن نسبة دخل أغنى عشرة في المائة إلى أفقر عشرة في المائة في هذه الدول لا تتجاوز 1:7، وحتى أن بعضها، مثل السويد، ربما يكون 1:5، فإن الدول العربية تفتقد إلى إحصاءات منتظمة عن توزيع الدخل. ولكن، تجري بين حين وآخر مسوحات بالعيّنة، أو استنتاجات مبنية على تحصيلات ضريبة الدخل، أو من المعلومات عن الاستهلاك الأسري، تعطي فكرة عامة في سنةٍ ما عن توزيع الدخل في دولةٍ عربية ما.
من مفارقات توزيع الثروات فى الوطن العربى أنها تجمع بين النقيضين الثراء الفاحش والفقر المدقع وهذا ماتوضحه دراسات عدة قامت بها جهات ومؤسسات عربية وعالمية تهدف إلى دراسة أوضاع الفقراء فى الوطن العربى، وتمخضت عنها تقارير تحتوى على إحصائيات ومؤشرات تؤكد على أنه برغم الوفورات النفطية وتضخم الاحتياطات النقدية الأجنبية لبعض الدول العربية كالسعودية والجزائر والعراق ، وكذلك أرصدة الصناديق السيادية العربية، إلا أن المؤشرات الخاصة بالفقر تعكس صورة تتنافى مع هذه الأرقام.
وعلى سبيل المثال فقد أشار التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2014، أن الفقر زاد على مدار سنتين فقط في الفترة من 2010-2012 بنحو 3.3% وأرجع أسباب ذلك إلى الاضطرابات السياسية التي شهدتها المنطقة، فهل بالفعل هذا هو فقط السبب وراء إرتفاع نسبة الفقراء فى الوطن العربى أم أن هناك عوامل وأسباب آخرى مؤثرة ساعدت على تدهور أوضاع الفقراء وازدياد أعدادهم.
ووفقا لإحصائيات البنك الدولي لعام 2013م، يبلغ سكان العالم العربي حوالي 345 مليون شخص، ويبلغ إجمالي الناتج المحلي للدول العربية مجتمعة حوالي ترليون وأربعمائة وتسعين مليار دولار أمريكي، إلا أن نصيب الفرد من هذا الناتج المحلي لا يزيد عن حوالي 3500 دولار أمريكي في السنة وأن هناك حوالي 96.6 مليون شخص في الدول العربية يعيشون تحت خط الفقر، أي ما يعادل 28% من مجموع السكان وأنه لا يزال واحد من خمسة من العرب يقل دخله عن دولارين في اليوم وبسبب الفقر، لا يخلو بلد عربي من جرائم القتل والسرقة والسطو والاحتيال والرشوة والاعتداء على المال العام والإتجار بالمخدرات والرقيق الأبيض، وكلها جرائم تهدد الأمن الإجتماعي لكل بلد عربي وهي في ازدياد مطرد سنة بعد سنة، وخصوصا في الدول العربية التي تعاني من الحروب الأهلية().
الغريب فى الأمر أنه رغم زيادة حدة الفقر والبطالة التى تعانى منها البلدان العربية والتى أكدتها تلك الدراسات ،فإنّ قائمة أغنى أغنياء العالم لعام 2014 التى نشرتها مجلة فوربس الأمريكية الشهيرة تضمنت 40 مليارديرا عربيا من ثمانى دول عربية يملكون ثروات تفوق ميزانيات 11 دولة عربية أى أننا أمام نقيضي الثراء الفاحش والفقر المدقع.
1-7:تأثير الفساد على التنمية الاقتصادية و إخفاق الدول العربية العربية(Rentier States) أنموذجاً States)،
قبل انطلاقة موجات انتفاضات «الربيع العربي» مع بداية عام 2011،كانت بعض الدول العربية، مثل تونس ومصر، تحقق معدلات نمو سنوية مرتفعة، كان صندوق النقد الدولي يثني عليها. ولكن، ثبت، بالدليل الواضح، أن توزيع هذا النمو مترجماً إلى دخل على مختلف فئات الشعب كان يزيد الأغنياء غنى، والفقراء فقراً. ومما يؤكد هذه الحقيقة أن توزيعاً آخر لا يقل أهميةً قد أخذ منحىً أكثر خطورة، وهو توزيع الثروة. ولو قبلنا بالإحصائية الدولية التي صارت متداولةً في المراكز البحثية ومحطات التلفزة الدولية، بأن أغنى واحد في المائة في العالم يحوزون على 99% من ثروة العالم، فإن هذا تطور خطير يعكس ضيق فرص الفقراء في المستقبل، لتحسين أوضاعهم ومداخيلهم وندرتها، فالثروة أساس الدخل.
تدل المؤشرات المتاحة في الوطن العربي على أن توزيع الثروة، أيضاً، أسوأ من توزيع الدخل. فالحكومات التي تسيطر على أهم مصادر الدخل، كالنفط والغاز، في دول الخليج، وبعض المعادن في دول أخرى، قد أوجدت طبقة من المستفيدين الكبار، القريبين من مركز صنع القرار. ويكون هؤلاء مع الوقت مراكز نفوذ سياسي، ويطوّرون أدواتهم للتأثير على صنع القرار من رشوة وتحالف لمنع المنافسة، وتدخل في اختيار الأشخاص للمناصب العليا، ومما يضمن لهم الاستمرار في الاحتفاظ بالمكاسب التي حققوها وزيادتها على حساب الباقين.
فمنذ حرب 1973، ومع ارتفاع أسعار النفط أربعة أضعاف ما كانت عليه، اضطربت البنية الاجتماعية – السياسية في الدول العربية، وبلغ أثر الطفرة هذه الدول النفطية العربية. فتحولت الأنظمة العربية كلها أنظمة ريعية.
وفي النظام الريعي، تحكم الدولة قبضتها على الثروات، وهي ثروات تفتقر إلى قيمة مضافة مصدرها البلد نفسه وقيمتها مرتبطة بالطلب الخارجي. وثمة دول عربية ريعية غير نفطية، مثل تونس والمغرب ومصر، وهذه تعيش على السياحة وعائدات المغتربين في الخارج ومن عائدات قناة السويس والمساعدات الأميركية. وثمة دول عربية أخرى أبضًا هي دول ريعية بامتياز، إذ تعتمد في نشاطها الاقتصادي على مورد طبيعي أحادي لتوليد الدخل، أي أنها تعتمد على صادرات البترول والغاز التي تمثل حوالي 90 % من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، كمصدر أساسي في كل مداخيل الدولة من العملة الصعبة، كماهو الحال للعديد من الدول العربية في منطقة الخليج والعراق، وليبيا والجزائر، الأمر الذي جعل العديد من المجتمعات العربية تعتاش على مصروفات هذه الدول الريعية، أو على الإنفاق العام، الذي يتحول إلى قناة لضخ الدخل الوطني، فتتضاءل حاجة الدولة الريعية لفرض ضرائب على دخول المواطنين في مقابل تصاعد اعتماد المواطن على الدولة للحصول على الدخل والخدمات العامة، ويسبب ذلك خللاً في العلاقة بين السلطة السياسية والمواطنين، بينما نجد في المجتمعات الرأسمالية الغربية أن الجزء الأكبر من ميزانية الدولة يقوم على دافعي الضرائب .وتكمن الإشكالية اليوم ،منذ بدء تراجع أسعار النفط في منتصف عام 2014، في تداعيات هذا التراجع على موازنة الدولة العربية الريعية، إذ أصبح الاقتصاد في كل دولة عربية تقريبا يعيش أزمات متواصلة ، فارتفعت حدة المشكلات الاقتصادية أخيراً مع زيادة الأسعار في مقابل تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، وارتفاع نسبة البطالة، وتراجع كبير في أوضاع الطبقات الوسطى الاقتصادية و الاجتماعية. وتكمن الإشكالية اليوم مع انخفاض أسعار النفط الحاد وتداعياته على الدول العربية الريعية في ضرورة الدخول في مرحلة التحولات الكبرى والعمل لإحداث تغيرات جوهرية والدخول في إصلاحات جذرية دستورية واقتصادية وسياسية واجتماعية قبل تحولها من خانة الدولة الريعية إلى الدول الفاشلة.
ويترتب على مثل هذه الأنظمة العربية الريعية بروز عدم تناظر سياسي بين الدولة والشعب. فالدولة تراكم الثروات ولا توفر فرص عمل. وليس خلق الثروات شاغل الدولة. فهذه تخشى انحسار احتكارها توزيع الريع. وهي تستسيغ التعامل مع العاطلين من العمل أو العاملين في مهن لا تؤمن كفاف العيش. فإرضاء هؤلاء من طريق توفير مساكن لهم أو منحهم إعانات غذائية يسير. وتحول الدول الريعية دون بروز شريحة اجتماعية تنتج الثروات، وتحوز، تالياً، هامش استقلال عن الدولة، وتباشر مساءلة السلطة. وكانت المساعدات الخارجية تسهم في تثبيت الأنظمة العربية الفاسدة، لأن نصف الأموال والمساعدات الخارجية المخصصة للتنمية كان ينتهي في الحسابات الخاصة لبعض قادة وزعماء بعض الدول العربية في المصارف الخاصة في دول أوروبية. وهذه حال مصر وتونس والأردن، وغيرها من الدول العربية. وهذه حال مصروتونس واليمن والأردن قبل اندلاع ربيع الثورات العربية.
ولكن ما هي أسباب تداعي النموذج الريعي هذا، في وقت ترتفع العائدات النفطية في الدول العربية؟ إن وراء تداعي هذه الأنظمة العربية الريعية أربعة أسباب، أولها تعاظم عدد السكان. ففي 1970 بلغ عدد سكان الوطن العربي 100 مليون نسمة، وفاق اليوم 365 مليون نسمة، أكثرمن 90مليون في مصر، و38مليون في الجزائر، و32.4 مليون في المغرب. ومع ارتفاع عدد السكان، تعقدت عملية حكم المجتمعات هذه. فنموذج توزيع العائدات استنفد، لذا، اضطرت الدولة الريعية إلى مواجهة موجات الاستياء الشعبي في الأرياف المهمشة، وفي أوساط شباب المدن الذين تدنى مستوى عيشهم.
والدول الريعية لا تدعو مواطنيها إلى العمل، ولا تحفز العمل وسوقه. وهذا مثبت في إحصاءات كثيرة. ففي سلم البطالة في العالم، وهي تقاس من أدنى المعدلات إلى أعلاها، تتربع مصر في المرتبة 107، والمغرب في المرتبة 109، والجزائر في المرتبة 110، والأردن في المرتبة 139، وتونس في المرتبة 140، واليمن، في المرتبة 185. وعليه، قد يصح رسم خريطة الثورات العربية بناء على معدلات البطالة والعمل.
ويشير صمويل هنتجتون في كتابه الموجة الثالثة للديمقراطية إلى أنه « إذا كانت مقولة لا ضرائب دون تمثيل مطالب سياسية»، فإن مقولة لا تمثيل دون ضرائب تصبح حقيقة سياسية في الدول الريعية. الدراسة التي أعدها لاري دياموند Larry Diamond مدير مركز الديمقراطية والتنمية وحكم القانون في جامعة استانفورد ونشرتها دورية الديمقراطية Journal of Democracy في يناير 2010 تحت عنوان:« لماذا لا توجد ديمقراطيات عربية؟»، تتضمن تحليلاً يقوم على الدمج بين عوامل اقتصادية وسياسية وجيواستراتيجية، وأهم عامل تشير إليه الدراسة لعدم وجود ديمقراطية عربية يكمن في هيكل النظم الاقتصادية العربية وليس مستوى التنمية الاقتصادية في تلك الدول، حيث إن حوالي 11 دولة عربية يمكن تصنيفها كدول ريعية وهي تعتمد على صادرات البترول والغاز كمصدر أساسي للدخل القومي، وفي بعض الحالات تمثل تلك الصادرات حوالي 90 % من قيمة الناتج المحلي الإجمالي .
إذا كان الفساد الكبير تزامل مع النمو الاقتصادي المطرد في بلدان جنوب شرق آسيا، فإن للفساد الكبير في الوطن العربي تأثيرات سلبية جدًّا في التنمية الاقتصادية ، بل أصبح الفسادعَكْسِيًا مع النمو الاقتصادي، بسبب وجود أنظمة عربية ريعية، ففي النظام الريعي يتغلغل الفساد بصورة كبيرة جدا، لأن الدولة الذي يتحكم فيها حزب شمولي، أوعائلة فاسدة، أو طائفة أو أوليغارشية عسكرية وبوليسية ،هي التي تحكم قبضتها على الثروات، وهي ثروات تفتقر إلى قيمة مضافة مصدرها البلد نفسه، وقيمتها مرتبطة بالطلب الخارجي.
جدير بالذكر أن من السمات البارزة للاقتصاد العربي التي تستحق اهتمامًا خاصًا في ما يتعلق بالفساد، الاعتماد بصورة رئيسة على الدخل الريعي الذي قوامه الإيرادات النفطية، والتحويلات الرسمية الخارجية (والتي يرتبط معظمها بعلاقات سياسية وأمنية مع الولايات المتحدة في الأساس) والفوائض المالية في مؤسسات القطاع العام وأخيرًا الريع المستمد من تشوهات السياسات الاقتصادية كاحتكارات الدولة وبعض أشكال الحماية التي تدر منافع استنائية لخزينة الدولة أو لمؤسسات القطاع العام.ومن خصائص الإيرادات الريعية أنها تنتج عن امتلاك الدولة لمورد أو ثروة استثنائية بحكم السيادة وأنها تؤول لخزينة الدولة تلقائيًا ومن دون الاعتماد على رضا أو تعاون أي طرف آخر في المجتمع، كماهو الحال مثلاً في الإيرادات الضريبية… ومن طبيعة الدخل الريعي أنه يؤول لخزينة الدولة مباشرة من دون أن يمر بقنوات قد تعرّضه للمحاسبة و المساءلة، فمعظمه نتاج لاتفاقيات تعقدها الدولة مع جهات خارجية (النفط واتفاقيات الأمن التي تفرز المساعدات الرسمية الخارجية) بعيدًا عن الشفافية والمراجعة من الكيانات السياسية النيابية. ومع تكاثر النظم العائلية والسلطوية في المنطقة العربية، تصبح ملكية العوائد الريعية والتصرف فيها مصدرًا حاسمًا لتعزيز قوة النظام وتمكينه من تخصيص الموارد الضخمة لحماية نفسه وإدامة حكمه. فليس من الغريب غداً أن يكون مستوى الإنفاق العسكري حوالي ضعف مثيله في مناطق العالم الأخرى بالرغم من انخفاضه النسبي في السنوات الأخيرة ().
لا شك في أن انعدام الشفافية والمساءلة يُبَاعِدُ بين الحاكم والمحكوم في الوطن العربي، و يُبَرِّرُ الشكوك في شأن شرعية الحكم، ويضعف مؤسسات الدولة إن وجدت، ويؤدي إلى انتشار الفساد وازدياد القمع والتضييق على الحريات العامة وحقوق الإنسان، ففي كل الدول العربية لا يميزالرؤساء والملوك والأمراء بين محفظة النقود العامة والخاصة، فيعمل المسؤولون الحكوميون ببساطة على الاستيلاء على الأصول الحكومية. ويبرز الفساد في البلدان العربية من خلال الحالات الأكثر تعقيدا التي يقوم فيها أفراد أو منظمات خاصة أو شركات برشوة المسؤول الحكومي للحصول على منفعة، وقد يتم الدفع في شكل تحقيق منفعة خاصة للمسؤول الحكومي أو لعائلته، أو في صورة مساهمة غير قانونية في حملة انتخابية ما.. والعلاقات التي تقوم ما بين الوكيل والمسؤول الرئيسي هي جوهر مثل تلك المعاملات الفاسدة. فالبراطيل غير القانونية هي إحدى الوسائل التي تدفع الموظفين العموميين إلى تخصيص مكاسب وخسائر النشاط الحكومي. والفساد الاقتصادي المنتشر في الأنظمة العربية الريعية على هذا النحو، يزيد عائدات البحث عن الريع مقارنة بالعمل المنتج، فهو يشوه الحافز نحو العمل، إذ يرى (الفاسد والمفسد) أن صرف الوقت لممارسة الفساد، أكثر ريعية من العمل المنتج، مما يغريهم بالاتجاه نحو الأعمال التي تدر ريعاً سريعاً، مما يؤثر في النهاية سلباً على معدل النمو الاقتصادي.
فقد أصبحت الدولة في البلدان العربية دولة غنائمية ، يسيطر عليها الحكام السادة اللصوص أو مصاصي الدماء الصرف الذين لايميزون بين النطاقين العام والخاص، حيث يقوم الحاكم وبطانته ببساطة باغتراف كل ما يرغبون فيه من ثروات البلاد، من دون حسيب ولا رقيب. من هنا، فإن إصرار الحاكم العربي المستبد على الاستمرار في الحكم يفرض عليه أن يكون نصيراً للفساد، ومسايراً للإستعمار الخارجي، وهو لن يستطيع ذلك من دون انتهاج سياسة «استعمار داخلي» تسمح له بتركيز كل السلطة بين يديه وبين أيدي المقربين منه. والحاكم وإن فعل ذلك بالمعنى السياسي فحسب في السابق، إلا أنه طور أدوات القمع في سنوات ما بعد 1967 ليضيف المعنى الحزبي الشمولي والطائفي والعائلي والمناطقي، وكذلك الفساد الاقتصادي والمالي، بحيث لم تعد هناك حدود واضحة بين الأمن المشروع والجريمة السياسية، وبين القطاع الخاص والقطاع العام، ولا بين القطاعين الخاص والعام من ناحية وبين خزينة الحاكم الخاصة من ناحية أخرى، كما أنه ابتدع أساليب وتشكيلات مقاتلة لا تحترم قوانين الدولة التي يرأسها هو بالذات، فإذا بنا ندخل إلى مرحلة «خصخصة الدولة» نفسها بعد أن شهدنا مراحل الخصخصة الاقتصادية لا لصالح القطاع الإنتاجي الخاص، بل لصالح السلطة الحاكمة وزبانيتهاالفاسدة.
بعد حرب أكتوبر 1973، و استخدام الدول العربية سلاح النفط في إطار محاربة الدول الغربية التي تؤيد الكيان الصهيوني، شهدت المنطقة العربية بعد ذلك التاريخ وعلى امتداد نهاية القرن العشرين، تدفقاً هائلاً للأموال الناجمة عن استثمار إنتاج النفط وتزايد الحاجة إلى استخدام لتوليد الطاقة. وقد واجهت البلدان العربية المنتجة للنفط، كما البلدان المستهلكة مشكلات اقتصادية متفاوتة من حيث حجمها وطبيعتها. ولعل من أهم نتائج الطفرة النفطية التغيير في البنية الاقتصادية والاجتماعية، ظهور الاختلال في التوازنات الاقتصادية الكلية، كما ظهرت مشكلة الاستيعاب الرأسمالي والقدرة الشرائية لأصحاب الثروات وتنامي حصة الاقتصاد الاستهلاكي على حساب الاقتصاد المنتج.
كما شهدت الدول العربية المنتجة للنفط توجها كبيراً نحو شراء الأسلحة من الدول الرأسمالية الغربية، ولا سيما من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا، وهو الأمر الذي يكشف لنا وجود علاقة قوية بين نسبة الإنفاق العسكري والفساد الناجم عن إبرام الفقات العسكرية الكبيرة من قبل العائلات الحاكمة وكذلك بعض النظم العربية الشمولية، بمعنى أن الدول العربية الأكثر فساداً تميل للإنفاق العسكري الأكبر. وذلك بسبب انعدام الرقابة الفعالة على هذا النوع من الإنفاق. وقد يتضمن ذلك أن أحد سبل مواجهة الفساد هو تحويل جانب من النفقات العسكرية إلى الإنفاق المدني الأكثر إنتاجية لأفراد المجتمع. وإذا كان هذا التوجه صحيحاً من الناحية النظرية، فيما يتعلق بتحويل جانب من الإنفاق العسكري إلى الإنفاق المدني المنتج، فإنه يتسم بعدم واقعيته في حال الدول التي عليها أن تحارب لاسترداد أراض لها محتلة من قبل الأجنبي، أو أن عليها مواجهة التهديدات بالعدوان عليها، بالحصول على السلاح المتطور، لتقوية دفاعاتها. لكن من أخطر النتائج التي عرفتها المنطقة العربية خلال الطفرة النفطية ما بعد حرب أكتوبر، هو إشاعة «ثقافة الفساد» التي كانت ولا تزال لها أبعد الأثر في عملية التنمية. وذلك عن طريق الاستيلاء غيرالمشروع على أموال كان يجب تخصيصها لعملية التنمية. وتقدر بعض حسابات الدخل القومي () «أن المتراكم من إجمالي الدخل القومي العربي للنصف الأخير من القرن العشرين (1950 ـ 2000) بنحو3000 مليار دولار (أي 3 تريليون دولار). ويقدر ما صرف على التسليح من هذا المبلغ بحدود ألف مليار دولار، أما عملية إعمار البنى التحتية، وما خصص للقطاعات الصناعية والزراعية والخدمية، فقد استهلك بحدود ألف مليار دولار أيضاً خلال الفترة ذاتها. أما الألف مليار الثالثة فيقدر أنها ذهبت إلى أشخاص ومؤسسات عملوا وسعوا من أجل (تسهيل وتيسير) العمليات والأعمال المطلوبة للشقين الأولين». وهذا يعني إن صحت هذه الأرقام، فإن ثلث ثروة الأمة، نهبت وحجبت عن مشروعات التنمية نتيجة للفساد، مما أسهم في ضياع فرص التنمية التي أقيمت خاصة بعد ارتفاع أسعار النفط في عقد السبعينات والثمانينات، وإذا ما تم توزيع هذه الأموال مباشرة على أفراد الشعب في البلدان العربية () «لارتفع متوسط الدخل القومي لكل فرد عربي مقدار 200 دولار سنوياً لكل سنة من سنوات نصف القرن الماضي». وإذا ما تم إنفاق الألف مليار دولار التي نهبت بواسطة الفساد، في مشروعات تنمية لأمكن تحقيق الاكتفاء الذاتي في الثروة الزراعية والحيوانية. وهكذا يتبدل على نحو واضح كيف (يستخدم) الفساد لإعاقة عملية التنمية ونهب الثروات الوطنية. خاصة عندما يترافق ذلك مع تهريب أموال الفساد إلى الخارج. وحرمان البلد المعني من ثرواته.
ولم يجد الحكام العرب لمحاربة الشعوب العربية ملاذاً إلا من خلال التستر على الفساد من ناحية، والتحالف مع القوى الأجنبية الغربية من ناحية أخرى، ولو من وراء ستار أو من «تحت الطاولة»، كما يهمسون، ولذلك استطاع هؤلاء الحكام استخدام كل أنواع القمع والقتل بوازع حقيقي من القوى الخارجية الكبرى، التي تقف موقف الـ «كلية القدرة» بكل ما تحمله من دمار في حالات معينة، و«فاقدة القدرة» إلى حد الإيحاء بالعجز في حالات أخرى، عندما تجد أن مصلحتها محققة تماماً وتقضي بعدم التحرك من أجل نشر الديموقراطية في العالم!
من نافل القول، في مثل هذه الوضعية أن يتزامل الفساد مع النمو الاقتصادي، لأن طبيعة الاقتصاد في البلدان العربية ريعي ، أي غير منتج، والدول العربية الريعية لا تدعو مواطنيها إلى العمل، ولا تحفز العمل وسوقه، وليست معنية ببناء اقتصاد وطني منتج ومستقل، عكس مماهو حاصل في بلدان جنوب شرق آسيا، رغم انتشار الفساد فيها. ومن اللافت أن هناك شبه إجماع تبلور لدى الباحثين حول العوامل الرئيسة المرتبطة بتباطؤ النمور في المنطقة العربية، وهي على النحو التالي:
1-ضخامة الجهز الحكومي
2- ضعف الإطار المؤسسي،
3-تخلف الإصلاح في الجهاز المصرفي وضحالة الأسواق المالية بشكل عام
4-تدني معدلات الاستثمار وانخفاض كفاءته.وتمثل هذه العوامل الأربعة في تأثيرها في تباطؤ النمو ما يتراوح بين 65-75بالمئة من الفارق في معدلات النمو بين المنطقة العربية ودول آسيا سريعة النمو على سبيل المثال.
من هنا تتضح العلاقة بين الارتفاع النسبي للعائدات الريعية في المنطقة العربية من ناحية، وتدني مستوى الأداء الاقتصادي لهذه المنطقة من ناحية أخرى. أضف إلى ذلك أن الآليات التي تحكم هذه العلاقة يمكن استشفافها من العوامل الآنفة الذكر، إذ أن تضخم الجهاز الحكومي وهيمنة أجهزة الدولة على النشاط الاقتصادي نابعان من توافر الموارد الريعية ومن حرص أجهزة الدولة على حماية النظام و الإبقاء عليه، الأمر الذي يرتبط، كما أشرنا من قبل، بضعف الإطار المؤسسي لممارسة العمل الديمقراطي وغياب الشفافية والمساءلة. ويؤدي هذا الوضع بطبيعة الحال إلى انتشار الفساد وتشويه السياسات والقرارات الاقتصادية، سواء كان ذلك في عقد صفقات التسليح أو اتفاقيات النفط أو تخصيص الإنفاق الأمني الداخلي أو التوظيف الحكومي، إضافة إلى تدخل السلطة في توجيهاالائتمان من المصارف لحلفائها من رجال الأعمال، الأمر الذي يرتبط أيضًا بتدني معدلات الاستثمار المجدي ().
و قد كانت «انتفاضات الربيع العربي » التي بدأت في سنة 2011،مرآة عاكسة لانتفاضة الشعوب ضد الفساد وفجور الحكام الفاسدين، ولأفول النموذج الريعي بسبب زيادة أطماع الحكام العرب على وقع ارتفاع الريع. فتحول معظم الجمهوريات العربية سلالات حاكمة يؤدي إلى تقلص قاعدة الأنظمة هذه الشعبية. والحال هذه انتفضت الشعوب العربية ضد التوريث و الفساد المستشري .
إضافة لذلك، إن المستثمر (النظيف) العربي أو الأجنبي، عندما يريد التوجه نحو بلد ما للاستثمار فإنه يسأل أولاً عن الفساد والروتين والبيروقراطية. كما يلجأ إلى منظمات الشفافية الدولية ذات المصداقية ليعتمد على دراساتها، قبل اتخاذ قراره. أما المستثمر الذي يهمه الربح السريع والعالي، ويعمل من خلال الأساليب الملتوية، فيسأل عن (مفاتيح) الفساد، وعن رجال الأعمال المحليين من أصحاب النفوذ والحظوة الذين يستطيعون تحرير الصفقات بسهولة ويسر. وفي الحقيقة فإن الفساد يفرض على رجال الأعمال والمستثمرين (ضريبة) إضافية سيئة، لأنها ضريبة عشوائية، تحكمية، وذات كلفة عالية جداً على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فهناك كلفة البحث عن هؤلاء الذين ستتم رشوتهم، كما أن هناك كلفة المفاوضات إضافة إلى الالتزامات التفاوضية الناجمة عن الرشوة. ويضاف على كل ذلك تكلفة الوقت. فهناك علاقة طردية بين مستوى الرشوة والوقت الذي يمضيه المستثمر مع الموظفين الحكوميين على حساب الكفاءة في إدارة الشركة (العارضة) والمشروع الحكومي. ففي مسح عام جرى في أوكرانيا عام 1996، بين أصحاب الشركات التي اعتادت تقديم الرشوة، وجد أن تلك الشركات تستنفذ ثلث الوقت مع الموظفين لإقناعهم بالصفقة. وفي مصر قدر الفساد الإداري في قطاع الاتصالات والمواصلات بأنه يستنفذ ما بين 20 و 30% من وقت العمل. والفساد على هذا النحو، يزيد عائدات البحث عن الريع مقارنة بالعمل المنتج، فهو يشوه الحافز نحو العمل، إذ يرى (الفاسد والمفسد) أن صرف الوقت لممارسة الفساد، أكثر ريعية من العمل المنتج. مما يغريهم بالاتجاه نحو الأعمال التي تدر ريعاً سريعاً، مما يؤثر في النهاية سلباً على معدل النمو الاقتصادي ().
8-التجربة التونسية في توزيع الدخل و الثروة
يبدو في الواقع التونسي أنّ تآكل الطبقات الوسطى لم يبدأ مع الأزمة السائدة حاليا رغم أنّ المعهد الوطني للإحصاء أشار في نشرته المتعلقة بنتائج المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر لسنة 2005 إلى أنّ نسبة الطبقات الوسطى من مجمــوع السكان تطوّرت مـن 70.6%في سنة 1995 إلى 77.6%في سنة 2000 وإلى 81.1% في سنة 2005، وهذا ما سنعود إليه لاحقا عند مناقشة تعريف الطبقات الوسطى بالاعتماد على شرائح الإنفاق بل إنّ هذا التآكل بدأ منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي جرّاء تقلص نسبة الأجور في الناتج الداخلي الخام وجرّاء المردود الانعكاسي للتحويلات الاجتماعية التي يزداد الانتفاع بها كلما ارتفع الدخل ().
صرّح المعهد الوطني للإحصاء في 2005 برأيه علانية حول تطوّر نسبة الطبقات الوسطى من مجموع السكان بمناسبة نشره لنتائج المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك معتبرا أنها تزايدت بين سنتي 1995 و2005 لأنّ نسبة مجموع شرائح الإنفاق الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة من مجموع السكان تزايدت في هذه الفترة وهي حدود الطبقات الوسطى كما يراها المعهد. ولكنّه سكت بعد ذلك فلم يفصح رسميا بمناسبة نشره لنتائج المسح في سنتي 2010 وفي 2015 عن تطوّر نسبة الطبقات الوسطى مكتفيا بإضافة شريحة ثامنة للإنفاق دون شرح تأثيرها في تحيين النسبة المشار إليها.
وينشر المعهد الوطني للإحصاء أيضا معلومات تهمّ توزيع السكان حسب الصنف المهني والاجتماعي لربّ الأسرة تبدأ تنازلا بالإطارات والمهن الحرة العليا ثم الإطارات والمهن الحرة المتوسطة ثم أعوان آخرين ثم الأعراف في الصناعة والتجارة والخدمات ثم المستقلين في الميادين السالفة الذكر ثم العملة غير الفلاحين ثم الفلاحين ثم العملة في الفلاحة إلى آخر ذلك من 12 صنفا بما في ذلك المتقاعدون. إلا أنّ النظر في مستوى الإنفاق الأسري أو الفردي لهذه الأصناف يدخل على الترتيب المعتمد من طرف المعهد الوطني للإحصاء شكّا كبيرا في إمكانية تقريبه بالمعطيات التي تهمّ شرائح الإنفاق حيث نلاحظ أنّ المتقاعدين يحتلون المركز الثالث من ناحية مستوى الإنفاق وأنّ الأعراف في الصناعة والتجارة والخدمات يحتلون المركز الرابع عوضا عن الأعوان الآخرين. يبقى أنّ العملة بجميع أنواعهم والعاطلين عن العمل والفلاحين يحتلون المراكز الأخيرة من ناحية مستوى الإنفاق مع أنّ هذه الأصناف لا تكوّن وحدة سوسولجية وهذا من الدوافع التي تجعل من الصعب المقاربة بين نتائج الطريقة الأولى والطريقة الثانية في تحديد نسبة الطبقات الوسطى من مجموع السكان.
ونستخلص من هذه التوطئة المتعلّقة بمفهوم الطبقات الوسطى ما يلي:
1 – أنّ الاعتماد على توزيع السكان حسب شرائح الإنفاق لحساب نسبة الطبقات المتوسطة من مجموع السكان لا يفي بالحاجة ولكنه يبقى الوسيلة الوحيدة الموصلة لذلك على ضوء المعلومات الإحصائية المتوفّرة في بلادنا.
2 – هناك فرق واضح بين الإنفاق والدخل مع وجود ترابط بينهما وهناك فرق واضح أيضا بين الدخل والثروة الممتلكة مع وجود ترابط بينهما كذلك وبالتالي فإنّ الفروق على صعيد الإنفاق لا تترجم كليا الفروق على صعيد الدخل والثروة الممتلكة.
3 – ما قيل وما كُتب السنة الماضية حول تناقص الطبقات الوسطى أو تآكلها لا يستقيم لأنّ المعهد الوطني للإحصاء لم يفصح إلا أخيرا عن نتائج المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك لسنة 2015().
1-8:نتائج المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك لسنة 2015
كما أشرت سابقا فإنّ المعهد الوطني للإحصاء أضاف شريحة ثامنة للإنفاق بداية من سنة 2010 ونشر تطوّرا للتوزيع النسبي للسكان بين سنتي 2000 و 2010 حسب شرائح الإنفاق السنوي للفرد بأسعار سنة 2010 ممّا أدخل على نسبة الطبقات الوسطى من مجمل السكان تغييرات، من ذلك أنّ هذه النسبـة بلغت 78.8 % في 2005 عوضاعن 81.1 % المصرّح بها سابقا. ولكن المهم هنا أنّ المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك لسنة 2015 بيّن أنّ نسبة الشريحة الثامنة أي الطبقات العليا من مجمل السكان بلغت 25,4 % مسجلة تطوّرا مرموقا بين سنتي 2010 و 2015 في حين سجّل مجمل الشرائح الأولى والثانية أي الطبقات الضعيفة تقلصا لافتا أيضا حسب المعهد ممّا من شأنه أن يفسّر تقهقر نسبة الفقر حسب المعهد أيضا.
ومهما يكن من أمر، فإنّ المعلومات التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء بشأن المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك لسنة 2015 لم تتضمن إطلاقا رأي المعهد فيما يخص تحيين نسبة الطبقات الوسطى من السكان وسكوت المعهد هنا كما كان الشأن في الوثيقة المتعلقة بالمسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك لسنة 2010 دلالة واضحة ومباشرة على دقة الموضوع علميّا وعلى حساسيته سياسيّا، فضلا عن تحرّج المعهد من الإدلاء برأيه. وهكذا ترك المعهد الوطني للإحصاء مجالا كبيرا للنقاش حول نقطة لا يمكن البتّ فيها في كل الأحوال عبر توزيع السكان حسب شرائح الإنفاق فقط. على أنّ المعهد الوطني للإحصاء نشر جملة من المعطيات يجب الوقوف عندها حتى تكون لنا صورة عن جملة التغيّرات الاقتصادية والاجتماعية التي حصلت في تونس بين سنتي 2010 و 2015 نلخّصها كالتالي:
1 – بلغت نسبة السكان الذين يقلّ إنفاقهم الفردي السنوي عن 500 دينار في سنة 2015 ما يقارب 0,1 % ونسبة السكان الذين ينفقون بين 500 و 750 دينارا 0,8 % والسكان الذين ينفقون بين 750 و 1000 دينار 2,1 % والسكان الذين ينفقون بين 1000 و 1500 دينار 8,1 % وهي الشرائح الأربع الأولى ومجملها 11,1 %. كما بلغت نسبة السكان الذين ينفقون بين 1500 و 2000 دينار 12,5 % بالمائة والسكان الذين ينفقون بيـــن 2000 و 3000 دينــار 26,4 % والسكان الذين ينفقــــون بين 3000 و 4500 دينار 24,5 %. وبالتالي فإنّ نسبة السكان الذين ينفقون بين 1500 و 4500 دينار بلغت 63,4 % واعتمادا على مستوى الفقر الذي أقرّه المعهد نفسه (15,2 %من مجمل السكان) فإنّ نسبة الطبقات الوسطى لا يمكن أن تتجاوز في كل الأحوال نسبة 63,4 %.
2 – هيكلة الإنفاق أي نسبة كل باب من أبواب الإنفاق الرئيسية كالتغذية واللباس والسكن من مجمل الإنفاق دلالة على تطوّر المجتمع إما إيجابا و إمّا سلبا فلمّا تنقص نسبة الإنفاق الموجّهة إلى تغذية نستخلص أنّ الدخل ارتفع نسبيا وأنّ الحاجيات المعبّر عنها بالأولية لُبّيَت إلى حد ما ليخصّص جزءاً أكبر من الإنفاق للاستجابة إلى الحاجيات الموالية في الترتيب كالسكن واللباس ثم بعد ذلك لتلبية الحاجيات المتعلقة بالصحة والنظافة والتعليم إلى أن نصل إلى الحاجيات المتعلقة بالترفيه والسياحة. فبعد أن شكّل الإنفاق على التغذية نصف الإنفاق العائلي تقريبا كمعدل في منتصف السبعينات من القرن الماضي انخفض تدريجيا بعد ذلك ليصل إلى 34,8 % في 2005 و29,3 % في 2010 28,9 % في 2015. إلا أنّ هيكلة الإنفاق الأسري تختلف كما هو متوقع حسب شرائح الإنفاق. فالشريحـــة الأولى من الإنفـــاق ( أقل من 500 دينار سنويا للفرد) تخصّــص 33,2 % من إنفاقها للتغذية في 2015، في حيــن تخصّص الشريـحـــة الثــانية (مـــن 500 د إلى 750 د) 40,7 % والشـريحة الثالثة (من 750 د إلى 1000 د) 40,0 % والشريحة الرابعة (من 1000 د إلى 1500 د) 38,4 % والشريحة الخامسة (من 1500 د إلى 2000 د) 36,5 % والشريحة السادسة (من 2000 د إلى 3000 د) 34,8 % والشريحة السابعة (من 3000 د إلى 4500 د) 32,5 % في حين لا تخصّص الشريحة الثامنة والأخيرة (4500 د فما فوق) إلا 23,7 % فقط من إنفاقها للتغذية.
وربما يلحظ عدد من القراء تعارضا بين العلاقة المشار إليها أي انخفاض نسبة النفقات الموجّهة للتغذية كلما ارتفع الإنفاق الجملي فيما يخصّ الشريحة الأولى (أقـــل مــن 500 دينار سنويا للفرد) حيث تخصّص هـــذه الشريحـــة الأكثر فقــرا 33,2 % من إنفاقها للتغذية وهي نسبة قريبة جدا من النسبة (32,5 %) التي تخصّصها الشريحة السابعة (من 3000 د إلى 4500 د) للتغذية والجواب هنا أنّ قسوة الفقر هي التي حتّمت على الشريحة الأولى الضغط على مصاريف التغذية لسدّ حاجياتها المتأكدة في السكن (45,9 %) وهي أعلى نسبة تسجّل إطلاقا. وتعزز استدراكنا للشذوذ عن القاعدة المشار إليها آنفا نسبة الإنفاق المخصص للتغذية حسب عشيرات الإنفاق، إذ نلاحظ أن العشير الأول (الأكثر فقرا) يخصّص 39,0 % من نفقاته للتغذية وهي أعلى نسبة تسجّل ثم تبدأ هذه النسبة في الانخفاض تدريجيا لتصل إلى 19,8 % فقط بالنسبة للعشير العاشر(الأكثر ثروة) ().
ويتناغم مستوى الإنفاق الفردي حسب الأبواب الرئيسية للإنفاق والصنف المهني والاجتماعي إلى حدّ ما مع هيكلة الإنفاق حسب شرائح الإنفاق إذ نلاحظ أنّ الإنفاق لفائدة التغذية وصل إلى22,3 % بالنسبة للأسر التي ترأسها الإطــارات والمهــن الحرة العليـــا ووصــل إلى 25,2 % بالنسبة للأسر التي ترأسها الإطارات والمهن الحرة المتوسطة ووصل إلى 35,2 % بالنسبة لأسر العملة الفلاحيين وهي أعلى نسبة تضمّنتها نشرة المعهد الوطني للإحصاء الخاصة بنتائج المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك لسنة 2015.
وبالمقارنة مع هيكلة الإنفاق حسب الأبواب وشرائح الإنفاق لسنة 2005 وهي السنة الأخيرة التي أفصح بمناسبتها المعهد الوطني للإحصاء عن نسبة الطبقات الوسطى حسب رأيه يتّضح أنّ التطور العام الإيجابي الذي شهدته هيكلة الإنفاق هذه بين 2005 و 2015 لا يمكن أن يؤخذ كدلالة على ازدياد نسبة الطبقات الوسطى من مجموع السكان ولو أنّ نسبة الفقر تقلّصت إبان الفترة المذكورة ولو أنّ المؤشر التأليفي «جيني» الذي يلخص درجة التفاوت في توزع الإنفاق الأسري تقلّص كذلك (من0,41 إلى 0,309 حسب المعهد)، لأنّ تقدير نسبة الطبقات الوسطى يخضع في النهاية إلى قراءة معمّقة في التغيّرات التي حصلت داخل التركيبة الاجتماعية وهي مسألة نسبية بالأساس.
2-8:الطبقة المتوسطة وتطلعاتها إلى الديمقراطية
كيف نعرّف الطبقات الوسطى؟
يطلق مصطلح الطبقات الوسطى عموما على فئات المجتمع التي تقع في وسط الهرم الاقتصادي والمالي أو التي تقع في وسط الهرم الاجتماعي المهني وهما طريقتان مختلفتان وغير متقاطعتين بالضرورة، فإذا استند تعريف الطبقات الوسطى إلى الناحية الاقتصادية والمالية فإنّه يستند تباعا إلى تقسيم السكان حسب شرائح الدخل وإن تعذّر حسب شرائح الإنفاق وهي الطريقة التي يتّبعها المعهد الوطني للإحصاء، أما إذا استند التعريف إلى الناحية المهنية فإنه يستند تباعا إلى تقسيم السكان حسب المركز الاجتماعي المهني لأرباب الأسر. وُتضبط حدود الطبقات الوسطى في الحالة الأولى بالرجوع إلى الشريحة أو الشرائح المتوسطة للدخل أو الإنفاق، فمن زاد دخله أو إنفاقه على هذا المستوى حُشر ضمن الطبقات الغنية أو العليا ومن نقص دخله أو إنفاقه على هذا المستوى حُشر ضمن الطبقات الفقيرة أو السفلى. وقد اعتمد المعهد الوطني للإحصاء على توزيع السكان حسب شرائح الإنفاق لحساب نسبة الطبقات المتوسطة من مجموع السكان لأسباب عملية، ذلك أنّ توزيع السكان حسب شرائح الدخل غير متوفّر، وهذا عيب كبير في حد ذاته تعود أسبابه أساسا إلى فقدان الإرادة السياسية().
فإلى جانب الثروات التي جلبتها العولمة الليبرالية، التي انخرطت فيها تونس منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، والتي استفادت منها الطبقة المتوسطة الاستهلاكية بسبب التوسّع في سياسة الإقراض لشراء السيارة والمنزل، حلّ في المقابل الفقر والبطالة ليهمّشا محافظات تونسية بأكملها من جراء انتهاج سياسات تعمّق حجم الاختلال التنموي بين الجهات والمناطق.
ففي كتاب نيقولا بو وكاترين غراسييه: «الوصية على قرطاج» الصادر في باريس سنة 2009، جاء فيه أن نظام بن علي البوليسي كان يفاخردائماً بأن الطبقة المتوسطة تبلغ 80 % من مجموع الشعب التونسي. فيرد الكاتبان بمرجعية دراسة للبنك الدولي تتحدث عن 47 إلى 48 بالمئة باعتبارها نسبة الطبقة المتوسطة من مجموع الشعب، وهذا الرقم (47 – 48%) ليس رقماً سلبياً على أي حال.
ويأتي توسع و تضخم هذه الطبقة المتوسطة الاستهلاكية التي تمثل نصف البيئة الاجتماعية التونسية، في سياق انخراط تونس في إطار العولمة الليبرالية، والدعم الغربي القوي للتجربة التونسية من خلال تدفق القروض على تونس من بنك الاتحاد الأوروبي، وكذلك تسارع رؤوس الأموال الغربية والخليجية على الاستثمار في تونس، الأمر الذي أسهم في زيادة معدلات التنمية في تونس أعلى نسبيا مما هي عليه في البلدان العربية المجاورة.
وباستثناء الدول الخليجية النفطية ، تعتبر تونس أغنى دولة عربية، إذ يبلغ الدخل الفردي فيها نحو4300 دولار. كما تعتبر تونس الرائدة من بين هذه الدول في مجال التعليم، فنسبة المتعلمين فيها تتخطى مصر والمغرب بكثير، وهي تعد من أكثر الدول العربية إنفاقاً على التعليم، إذ بلغت فيها حصة الثقافة من الدخل القومي نحو 7.2 %، في وقت تنفق مصر نصف هذه النسبة، والمغرب 5،7 % ، كما أنّ تونس هي الدولة الأكثر تمدّناً من بين دول المغرب العربي الأفريقية، حيث يقطن 67 % من سكّانها في المدن، في مقابل 56 % في المغرب و43 % في مصر.ويملك 80 % من الشعب التونسي بيتاً.
أمّا انخراط تونس في العولمة، فيمكن قياسه عبر حصّة الصادرات من الدخل القومي. وفي حين لا تشكّل هذه النسبة أكثرمن 15 و24 % من الدخل القومي المغربي والمصري على التوالي، تقترب النسبة في تونس إلى معدّلات الدول الأوروبية مع حوإلى 40 % . ومع هذه الأرقام والنسب، يمكن لكارل ماركس أن يصفق تقديراً وبهجةً، وهو يصرح «كنت على حقّ!». وهو بذلك يعني تحديداً مسألة «حتمية الصراع» بين النظام وبين الطبقات الصاعدة، أي بين البنية السلطوية المتصلبة للدولة البوليسية التونسية والطبقة المتوسطة الصاعدة.
ورغم النجاحات التي سمحت بها التنمية الاقتصادية السريعة بتحسين شروط حياة السكان وتعظيم الأمل في المستقبل وتعزيز شرعية النظام، فإن الرئيس المخلوع بن علي الذي كان مدعوماً من حلفائه الغربيين ، قام بتطبيق النموذج الصيني على تونس، والذي يتمثل في تأمين لقمة العيش للشعب مقابل الحرية، ومقايضة السياسة نهائيا بالاقتصاد، وتفضيل الوجود أوالبقاء على قيد الحياة على الهوية والمعنى. وكانت هذه الطبقة المتوسطة النابض الرئيسي، والمستفيدة من النمو، الذي نادرا ما نزل أدناه إلى أقل من 4 إلى 5 في المئة. إنه أداء رائع من شأنه أن يثير الحسد والغيرة من قبل جيران تونس، والذي كان في أصل العقد الاجتماعي مع عشيرة زين العابدين بن علي: في مقابل إبادة الحريات السياسية، يضمن النظام النجاح الاقتصادي لهذه الطبقة المتوسطة. إنه نوع من الاتفاق على الطريقة «الصينية » إذا جاز التعبير.
وهذه المعادلة الذهبية المتبعة في أكثر البلاد العربية، هي التي يسمونها بالنموذج الصيني، وهي تعني الجمع بين إغلاق باب السياسة أو إزالتها من الحياة العامة وتحريم العمل فيها، في أي صورة كان، سواء كان عملاً سياسياً مباشراً أو نشاطات مدنية، وتحليل الاقتصاد في أي شكل كان، سواء أجاء على صورة استثمارات أجنبية أو مراكمة للثروة بالطرق الشرعية وغير الشرعية، أو الفساد والسرقة العينية().
لكي نفهم العلاقة بين معدلات النمو الجيدة في تونس، التي تعتبرالأعلى بين البلدان العربية خارج منطقة الخليج، و نجاح حكم بن علي في تحسين المؤشرات الاجتماعية الرئيسية كالحد من الأمية ونشر التعليم وضمان درجة مقبولة من المساواة بين النساء والرجال في المجتمع، والتطلعات المشروعة للطبقة التونسية إلى بناء ديمقراطية فعلية وحقيقة في تونس، علينا العودة إلى صاموئيل هانتنغتون، ولكن ليس من خلال نظريته الشهيرة «صدام الحضارات»، وإنما من خلال الكتاب الذي نشره عام 1991 تحت عنوان «الموجةالثالثة:إرساء الديموقراطية في القرن العشرين».
قد لا يكون ممكناً عرض مفهوم هانتنغتون بكل تشعباته المعقّدة، لكن الرسالة الأساسية التي يمكن اعتمادها تقوم على فكرة يمكن استخلاصها من الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون عام 1992: «إنه الاقتصاد، يا غبي!»، بالإضافة إلى عوامل أخرى، من بينها الثقافة والتمدّن والعولمة، تدخل جميعها في إطار «تشكّل الطبقة الوسطى».
كل هذه العناصرتتوافر في تونس، التي ظهرت كمخلب دموي نافر في قوس عربي جامد سياسيّاً من الرباط إلى دمشق، حيث تمضي معدّلات الولادة في تحجيم النمو الاقتصادي، ويتجسّد ظلم الحكم في قائد أو ملك. وتتناسب الثورة التونسية مع النموذج الذي وضعه هانتنغتون في كتابه الذي تناول فيه موجات الديموقراطية بين العامين 1974 و1989. وقد وجد المؤلف أن الثروة المتزايدة نذير شؤم على الحكم التسلّطي. أمّا الرقم السحري لفهم هذه المعادلة، فيتراوح بين ألف وثلاثة آلاف دولار كمعدّل للدخل الفردي (مع ضرورة تعديله في أيامنا هذه ليناسب حجم التضخّم.(ولتسليط الضوء على هذه الظاهرة، عمد هانتنغتون إلى التذكيربكلام وزير مالية إسباني سابق، تنبأ عام 1960 بتحوّل بلاده نحو الديموقراطية بمجرّد وصول الدخل الفردي إلى ألفي دولار، لافتاً إلى أنّ «هذا ما حصل» عام 1975. ولكن ماذا عن تونس اليوم؟ يبلغ معدّل الدخل الفردي في البلاد 4 آلاف و300 دولار أميركي، وهو ما يعادل ألف دولار آنذاك. ولمصادفة الأرقام الغريبة، بلغت القوة الشرائية التونسية عند انفجار الثورة 9 آلاف دولار، وهو ما يعادل 2200 دولار عام 1975، زمن تحوّل إسبانيا نحو الديموقراطية. . ويبقى السؤال، هل تصبح تونس الديموقراطية الأولى في القوس العربي؟
بالعودة إلى هانتنغتون، تزامنت المرحلة الانتقالية في إسبانيا مع موت الديكتاتورفرانشيسكو فرانكو عام 1975، وذلك بعد 40عاماً في الحكم. ولو لم يدعم الملك خوان كارلوس هذا الانتقال، لكان«الاستقطاب أدّى إلى العنف الاجتماعي».وبالرغم من فرارالرئيس التونسي زين العابدين بن علي، فإن ليس هناك من «خوان كارلوس» في اللعبة التونسية – أي شخصية محدّدة ممثلة للسلطة والشرعية. وخلافاً لما حدث في إسبانيا، بدأت تونس تشهد أحداث عنف، بين أنصار الثورة وجماعة النظام البوليسي البائد…وهكذا يبدو أن أي مجتمع عربي من المحيط إلى الخليج لم يبلغ نقطة «الحضيض الإسباني»، ويبدو أنه لن يبلغها قبل عمر طويل… ما يعني أن تونس تبقى استثناء ().
3-8:حكم الترويكا :الخراب الاقتصادي و ازدياد المديونية
تونس في الوقت الحاضر تعاني أزمة اقتصادية خانقة، السبب في ذلك، أن الأنموذج التنموي السابق الذي كان سائدا منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن، لفظ أنفاسه الأخيرة مع اندلاع الثورة، وحتى المؤسسات الليبرالية الدولية، مثال صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ووكالات تصنيف ومنتديات عالمية أو بصيغة مقتضبة كامل حارسي المعبد الليبرالي الجديد المسيطر حاليا على الاقتصاد الدولي، وعلى الفكر الليبرالي الدوغمائي، يقرون جميعاً بموت الأنموذج التنموي السابق، وضرورة إيجاد بديل له.
وكانت تونس شهدت منذ سنة 2006 بداية التراجع في الترقيم السيادي للبلاد، مما تسبب في تراجع النمو لا سيما خلال الفترة الممتدة بين 2007 و2009، وانخفاض القيمة المضافة أساساً في الصناعات التحويلية والسياحية والتجارية خصوصا في سنة 2009، الأمر الذي أدى إلى تراجع الدخل الفردي المتاح ليصل إلى 5641 ديناراً، حوإلى (3133 دولاراً)، وبدأت بذلك تبرز ظواهر الفقر وضعف تكوين راس المال الثابت، إذ لم تتجاوز نسبة ارتفاعه 5.8%، لتتكثف موجات الهجرة من المحافظات الداخلية المهمشة والفقيرة والمحرومة من مشاريع التنمية، نحو التجمعات الحضرية الكبرى، وخاصة في تونس العاصمة، وسوسة، وصفاقس.
ومنذ انفجار الثورة، وطيلة حكم الترويكا، عاشت تونس خراباً حقيقياُ لاقتصادها، محا النمو المتسارع والمستقر الذي عاشته البلاد على مدى أكثر من عقد بشهادة المنظمات الدولة المانحة، والشركاء الاقتصاديين لتونس مثل الاتحاد الأوروبي، وبشهادة الشعب التونسي بمختلف طبقاته الاجتماعية وأجياله، الذي صار أكثر من ثلثه فقيرا أو تحت خط الفقر. وحسب معطيات المعهد الوطني للإحصاء، فقد تفاقمت نسبة الفقر الشديد من 15% في أواخر سنة 2009 من مجمل السكان في 2013 حسب المسوحات الميدانية لمصالح وزارة الشؤون الاجتماعية، فأصبحت نسبة الفقر اليوم تشمل أكثر من مليوني تونسي صاروا تحت خط الفقر بحسب المعايير الوطنية والدولية، ويعانون بالتالي صعوبة في التغذية، ونقص مداخيلهم ما ألجأهم إلى التداين المفرط لتلبية أبسط مقومات العيش، إذ بلغ قائم التداين العائلي 16091 مليون دينار(حوإلى 9 مليارات من الدولارات )، وفق معطيات مركزية المخاطر للبنك المركزي التونسي الذي أحصى 800 ألف عائلة تونسية ترزح تحت الديون.
وكانت الترويكا الحاكمة بقيادة حركة النهضة الإسلامية تفتقر إلى منوال جديد للتنمية، فتراجع النمو والتنمية في عهدها، بل انعدما أو كادا يضمحلان رغم أرقام نمو سلبية غالباً أو مبالغ فيها لا تناسب الواقع بسبب الفقر المستشري والأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، والتي رهنت مستقبل الأجيال القادمة عقوداً لدى الدائنين، وقضت على أنموذج التنمية السابق لحكم الترويكا على علاته، ونسفت نجاحاته وصارت التنمية غاية يصعب تحقيقها. فقد تفشت ظاهرة التهريب في ظل حكم الترويكا، إذ تسببت في خسائر يومية طائلة لخزينة الدولة، وخلقت مشاكل جمة للمؤسسات المنظمة، فأضحت المغذي الرئيسي للتجارة الفوضوية التي تحولت إلى اقتصاد خفي قائم الأركان. وحسب دراسة أعدها البنك الدولي، فإن التهريب يكلف تونس سنويا خسائر تقدر بنحو 6600 مليار من المليمات، أي ما يعادل 3.6 مليارات دولار.
وفضلاً عن ذلك ، استقرت نسبة التضخم عند حدود 6 %، أما مستوى التهرب الجبائي فقد بلغ نسباً قياسية ، وقد كلف خزينة الدولة سنة 2014 ما قدره 10 مليارات دينار، وهو ما يمثل 35 % من الإيرادات الإجمالية الجبائية وغيرها للبلاد التونسية برمتها.وأصبح الاقتصاد الموازي(التهريب) يمثل 53 % من التداولات التجارية، ويساهم في إضعاف الإيرادات الجبائية بأكثر من 32 %.وللتدليل على أن لتونس قدرات مالية هامة قد تغنيها عن التوجه إلى الاقتراض الخارجي هو أن الاقتصاد الموازي في تونس يمثل نسبة 53 % من الناتج الداخلي المحلي للبلاد أي أن 53 % من الثروة التي ينتجها التونسيون
متأتية من الاقتصاد الموازي.
كما تفاقم الفقر في تونس، وفي حدّيه الأدنى والأعلى ليصل في المعدل إلى 30 % ، وقد اشتدت وطأته أساسا على أطياف كبيرة من التونسيين نتيجة سوء عدالة توزيع الدخل الذي يعادل مؤشره 40 %، مقابل معيار معتمد دولي يساوي 100 %.و يعاني الاقتصاد التونسي ولا يزال من مشكلة البطالة ،إذ يوجد ما يقارب مليون عاطل عن العمل في تونس، وهوالأمرالذي يتطلب من الحكومة التونسية معالجة مشكل البطالة لامتصاص غضب الأعداد الكبيرة من العاطلين ولاسيما أصحاب الشهادات العليا الذين يزيد عددهم عن 250 ألف. كما أصبح الاقتصاد التونسي يعاني من تراجع في قطاع السياحة بشكل كبير نحو40 % منذ سقوط الديكتاتورية، علماً بأن هذا القطاع يمثل 8 % من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر ما يقارب 450000 من الوظائف المباشرة وغير المباشرة.
ومن المعروف أن عائدات التهريب والاقتصاد الموازي تعود بالدرجة الرئيسية لجيوب عصابات المهربين، أو المافيات الاقتصادية، وهي لا تعود بالنفع على الفئات المهمشة، كما هو الاعتقاد الشائع في المجتمع. وفضلا عن ذلك، فإن التهريب والاقتصاد الموازي تسببا ولا يزالان في فقدان مليون تونسي لمصادر رزقهم، ويهددان مواطن الشغل في القطاع المنظم من الاقتصاد. وتتمظهر الأزمة الاقتصادية في تونس راهنا، في انهيار التوازنات المالية للدولة، وعجز قياسي في ميزان المدفوعات رغم التداين المفرط الذي بلغ في مجمله خلال السنوات الثلاث الماضية 19078 مليون دينار، اي ما يعادل 10 مليارات دولار، مما تسبب في تراجع القدرة الشرائية للمواطن بنسبة 22%، ما أحدث تضخما مفتوحاً يفوق 6%.
وشهدت تونس تراجعاً شديداً في ترتيبها الاقتصادي، مثلما جاء في الترتيب الأخير لمجلة «فوراين أفارس» للدول الهشة والتي أسندت بالاعتماد على جملة من المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المرتبة 87 إلى تونس، وهي مرتبة تبعث على الخوف. وتهم نقاط الضعف حسب المجلة بالخصوص قطاعين أساسيين وهما قطاع الخدمات العامة وجهاز الدولة بصورة عامة، وهي مسائل يجب أن تحظى بالأولوية المطلقة من قبل الحكومة حتى لا تتحول تونس إلى بلد فاشل.
بعد إنجاز الثورة ،كان الاقتصاد التونسي، ولا يزال يواجه صدمتين في الوقت الحاضر: صدمة مرحلة الانتقال الديمقراطي طيلة السنوات الأربع الماضية، التي كانت سمتها الرئيسة بقاء تونس في ظل حكومات الترويكا والتكنوقراط الفاشلة، والتي أثبتت عجزاً فاضحاً في محاربة الإرهاب، بل إن الإرهاب تسلل بعد الثورة واستطاع أن يستوطن في عهد حكومات الترويكا المتعاقبة، وهاهو اليوم يقيم الدليل على أنه دخل في مرحلة جديدة من الحرب ضد الدولة والمجتمع في آن معاً، وصدمة الحرب الدائرة في ليبيا، فقد خسرت تونس الكثير من تواصل الفوضى والعنف في ليبيا التي كانت ستوفر حلاً حقيقياً لمعضلة البطالة التونسية. وهنا نشير إلى إن إحصائيات المنظمة الدولية للهجرة أشارت إلى إن حوالي 100 ألف مهاجر تونسي عادوا إلى أرض الوطن إثر اندلاع الثورة الليبية في سنة 2011، وكان أغلبهم من الرجال المتزوجين ممن يملكون مستوى تعليميا و مهنياً ضعيفاً نسبياً.
وإذا كان معدل النمو المقدر من قبل النظام السابق يتمحورمن 4 إلى 5 % لسنة 2011، فإن الصدمات الخارجية و الداخلية التي تعرض لها الاقتصاد التونسي، والمتمثلة في تداعيات الاتفاق متعدد الألياف (حول النسيج) مع بداية عام 2005 الذي منح حصصا (كوتا) للبلدان الغنية، وقلب رأساً على عقب توزيع الحصص، على صناعة النسيج التونسية عقب الوصول المدوي لكل من الصين والهند، ودخول اتفاقية التجارة الحرة بين تونس و الاتحاد الأوروبي حيز التطبيق في سنة 2008، والإسقاطات المدمرة للأزمة الاقتصادية العالمية على الاقتصاد التونسي، والانتفاضات العمالية التي شهدها الحوض المنجمي في مدينة قفصة في سنة 2008، كل هذه العوامل مجتمعة جعلت معدل النمو في تونس لا يتجاوز % 1طيلة سنتي 2012 و 2013 ، وهو معدل ضعيف جدا.
وكما أوضح البنك الدولي في تقريره «الثورة غير المكتملة» لسنة 2014، فإن نهب الدولة لم ينته مع خروج بن علي، بل تواصلت التجاوزات ولربما تسارعت مع ظهور فكر الغنيمة في عهد الترويكا. ونتيجة إرث الترويكا واستمرارها في تسيير دواليب الدولة والنشاط الاقتصادي والمالي، تواصل تعثر الاقتصاد الوطني خلال سنة 2014. ومع دخول سنة 2015، باتت تونس رازحة تحت عجز في الموازنة، إذ انتقل هذا العجز من 1% سنة 2010، إلى 7% سنة 2014، كما وصل العجز التجاري الهيكلي والعميق الذي تشكو منه البلاد إلى نحو 22 مليار دينار في سنة 2014، أي نحو 20 من الناتج المحلي الإجمالي. وانتقلت مصاريف الدعم من 1500 مليار دينار سنة 2010 إلى 5500 مليار دينار في سنة 2013، و إلى 7000 مليار دينار في الوقت الراهن.
وحملت المرحلة الانتقالية (أربع سنوات ) نحو الديمقراطية في صيرورتها تراجعاً في معدل النمو، وهو الآن لا يتجاوزنسبة 1.2% ، ذلك أن الثورة التونسية كلفت خسارة للاقتصاد التونسي بنحو 2 مليار دولار ،أي 1.4مليار يورو)،أي ما يعادل 4 % من الناتج المحلي الإجمالي في سنة 2011. ولم يتوقف هذا النزيف بعد الثورة، بل زادت وتيرته خلال السنوات الأربعة الأخيرة ، كما يدل على ذلك الارتفاع الجنوني للديون الخارجية لتونس ، الذي تضاعف في 3 سنوات، إذ تقدر ديون تونس الخارجية بنحو 50 مليار دينار، أي ما يعادل 25 مليار دولار، و بنحو 55% من الناتج المحلي الإجمالي. وكانت تونس حصلت على ديون (أجلها 5 سنوات ) في ظل حكم الترويكا: ديون سنة 2012=4.764 مليار دينار، و ديون 2013=5.290 مليار دينار، وديون 2014=7.838ملياردينار، أي أن تونس حصلت خلال حكم الترويكا على ما يصل إلى نحو 18 مليار دينار. ومع بداية 2016 ستبدأ تونس في تسديد هذه الديون ، ولغاية 2018، وستعرف البلاد تراكم خلاص الدين بنسق كبير، وتونس تعيش أزمة اقتصادية ومقبلة على إفلاس حقيقي؛ فكل تونسي أصبح مُداَناً بنحو 5000 دينار.
4-8::القروض بمنزلة الثقب الأسود ()
قد تتحوّل القروض إلى حلّ مقبول لدفع العجلة الاقتصاديّة وإعادة النشاط لمختلف القطاعات عندما تشحّ موارد الدولة وتغيب إمكانيات التمويل الذاتي نتيجة ظرف اقتصاديّ صعب، لتكون النتيجة استعادة عافية الاقتصاد المحلي واستئناف الإنتاج وخلق القيمة المضافة المرجوّة لتسديد القروض.لكنّ الفرق بالنسبة للاقتصاد التونسي، يتمثّل في إنهاكه بالقروض السابقة، وتعطّل الإنتاج في مختلف القطاعات خلال الأشهر التي تلت يناير/جانفي 2011، حيث تراجعت مختلف المؤشرات الاقتصاديّة في ظلّ انكماش الدورة الاقتصاديّة وتراجع الاستثمارات المحلية والأجنبية نظراً لاضطراب الوضع الأمني والسياسي. هذا الوضع الجديد عمّق عجز الموازنات العموميّة، خصوصا مع ارتفاع ديون البلاد التي صارت تستنزف سنويا 53 % من الناتج المحليّ الخام على حساب التنمية والاستثمار العموميّ. بل اعترف رئيس الحكومة نفسه، أنّ عجز الموازنات الماليّة يعود بالأساس إلى تفاقم الاستهلاك وغياب رؤية واضحة لمخطّط تنمويّ شامل. إذاً فإنّ الاستدانة ستكون من أجل تغطية المصاريف الاستهلاكيّة، وهنا يكمن ضرر هذه القروض.
فنجاح خيار التداين الخارجي مرتبط بخطة تنموية واضحة تقوم على تمويل مشاريع ذات مردودية اجتماعية واقتصادية عالية لتسهم في خفض نسب البطالة وخلق أرباح تمكّن من تغطية قيمة الديون وضمان استمرارية المشاريع الاستثمارية المنجزة. لكنّ السياسة التونسيّة القائمة على التداين من أجل تغطية نفقات الاستهلاك التي تبتلع 70 % من موازنات تونس، وإن حقّقت انفراجا «وهميّا» على المدى القريب، فإنّها لن تلبث أن تعود بالبلاد إلى المربّع الأوّل من العجز والاختلال في الموازنات المالية ليرتهن الاقتصاد للمديونية. هذه المرحلة الأشبه بعمليّة التنفسّ الاصطناعيّ للاقتصاد الوطنيّ، حيث يصبح هذا الأخير عاجزا عن الصمود من دون تدفّق الأموال من الخارج لتسديد الديون القديمة من جهة وتوفير السيولة لنفقات التصرّف من جهة أخرى.
على عكس ما يدعيه الفكر الاقتصادي السّائد الذي يزعم أن الدّين الخارجي هو نصير التنمية في بلدان العالم الثالث، يبرز تحليل المديونيّة الخارجيّة لتونس، التي تعدّ بمنزلة النموذج في هذا المجال، أنّ الحقيقة عكس ذلك. إن الأمر أسوأ من ذلك، حيث يمثل تسديد خدمة الدّين اليوم أحد أهمّ العراقيل التي تقف في طريق التنمية في تونس، ممّا يستوجب إلغاء هذا الدّين.
ويقول الأستاذ الجامعي فتحي الشامخي()، إن مُواصلة تسديد خدمة الدّين الذّي يزداد عبؤه باستمرار وذلك برغم ضخامة الأموال التّي تمّ إرجاعها والتّضحيات الجسيمة التّي تكابدها الطبقات الشعبيّة، أو استعمال الموارد الماليّة العموميّة من أجل خلق الشّروط التّي من شأنها أن تسمح بالرّفع في مستوى عيش هذه الطبقات الشعبيّة ؟ تلك هي المعادلة التّي تواجه تونس، والتّي تكتسي اليوم طابعا ملحّا نظرًا لكونها تطرح بعد عقدين مثّل خلالها تسديد خدمة الدّين الأولويّة على حساب المصالح الحيويّة للمجتمع. إنّ تونس لا تفتقر إلى مؤهّلات لكي تشرع في التقدّم، بعد انقضاء نصف قرن على نيلها الاستقلال، نحو مجتمع عادل وحرّ ومزدهر، بشرط أن تتخلص قبل ذلك من عراقيل عدّة من بينها المديونيّة الخارجيّة.
لقد نشأ الدّين الخارجي بعد الاستقلال. وكان يفترض أن تمثّل القروض الخارجيّة أداة أساسيّة نحو «تحقيق التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة» المنشودة. لكن نظرا لمستواها المرتفع، ولتعدّد انعكاساتها الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة، أصبحت المديونيّة من أبرز معضلات الواقع التّونسي. وبعبارة أخرى، تلجأ الدّولة التونسيّة إلى الاقتراض الخارجي بُغية تمويل التّنمية وتحديث البلاد، أي بهدف تهيئة التّراب الوطني، والاستثمار في القطاعات الاقتصاديّة الإستراتيجية، وتحسين التعليم ونظام الصحّة العموميّة وتمويل البحث العلمي والثقافة، ومن أجل إقامة دولة القانون وتيسير الوصول إلى القضاء، وتمويل حماية البيئة، إلخ. فهل تدعم أرقام الدّين في تونس هذا الاعتقاد السّائد؟.
و يضيف الشامخي قائلاً ، في دراسته عن الديون الخارجية التونسيىة ، وتداعياتها المدمرّة: إن المتابع لتاريخ الديون الخارجية يلمس بوضوح أنّ تونس قد سدّدت بعنوان الاقتراض الخارجي أكثر ممّا تلقّت، فهي بالتّالي مصدّرة لرؤوس أموال الاقتراض، ويتّضح بمقتضى ذلك أنّ تونس هي التّي تموّل المؤسّسات والأسواق الماليّة الدّوليّة وليس العكس. وبعبارة أخرى، تُبرم الدّولة التّونسيّة قروضا جديدة لغاية وحيدة ألا وهي تسديد خدمة الدّين الخارجي، وليس بغاية تمويل التّنمية المزعومة. ومن خلال ذلك يتّضح لنا أنّ القُروض العُموميّة لا تخدم لا التّنمية ولا الاقتصاد، كما لا تفيد في شيء خلق مواطن الشغل، ولا تساهم في تحسين مستوى عيش التّونسيّين، ولا تخدم تعميم الدّيمقراطية على الحياة السّياسيّة، ولا تصلح أيضا لحماية البيئة.
نتيجة لذلك، تضطرّ الدّولة إلى توظيف جزء من محاصيلها الجبائيّة في تسديد خدمة الدّين، وذلك بالإضافة إلى مجموع ما تحصل عليه سنويّا من الخارج في شكل قروض جديدة. وهي إذ تفعل ذلك إنّما تحرم الأُجَراء، والطبقات الشعبيّة عموما، من موارد ماليّة من حقّها أن تتمتّع بها هي بكيفيّة تمكّنها من تحسين شروط عيشها.
5-8: انتشار الفساد في ظل حكم الترويكا وظهور «الأثرياء الجدد»
أجمع عدد من المختصين والعارفين على أن أثرياء الثورة هم في الأساس تجار التهريب وتبييض الأموال إلى حدّ أن أحد المختصين قال إن المجتمع التونسي صار شبيها بالمجتمع الإيطالي الذي تسيطر عليه المافيات. وأظهر تقرير مؤسسة «ويلث إكس» السنغافورية المتخصصة في جمع المعلومات حول أثرياء العالم وتوزيع الثروة للعام 2013 أي بعد عامين على رحيل نظام بن علي أن عدد الأثرياء في تونس ارتفع بنسبة 16.2 بالمئة مقارنة بالعام 2012 ليبلغ عدد الأثرياء التونسيين الذين يملكون ثروات تفوق المليارات إلى 70 شخصا تقدر ثروتهم معا بـ9 مليار دولار ( 18 مليار دينار تونسي) أي ما يعادل 257مليون دينار للشخص الواحد، ما جعل تونس تحتل المرتبة السابعة من حيث مجموع الأثرياء في القارة الإفريقية. وحسب ذات التقرير فإنّ 25 مهرّبا يتصدّرون قائمة أثرياء تونس كما أنّ تونس تحتلّ المركز الأوّل في المغرب العربي في قائمة أصحاب الثروات التي تتجاوز قيمتها 58 مليون دينار .
ووفق مؤشّرات إحصائيّة احتلت تونس المرتبة الخامسة عالميّا في تبييض الأموال حسب تقرير منظمة الشفافيّة الدوليّة ويعتبر التهريب المتزايد من أبرز أسباب هذه الظاهرة. ولاشكّ أنّ تفشي ظواهر التهريب وتجارة المخدرات والسلاح والدعارة والتجارة الموازية ينمّ عن غياب آليات المراقبة ووسائل الردع، في ظلّ انتشار الرشوة والفساد. والمؤكد أنّ المنظومة التي نسجوا خيوطها ستتضخّم إذا لم تستعد الدولة سلطتها لفرض تطبيق القانون ولمحاسبة كلّ الذين أثروا بطريقة غير مشروعة، إذ أن وجودهم يشكل خطرا على الاقتصاد الوطني.
غير أن الخبراء الماليزيين يقولون إن النسبة العامة للأثرياء التونسيين ارتفعت خلال السنوات الأربع الماضية إلى حوالي 20 % لتستحوذ على حوالي 80% من ثروات البلاد، في مجتمع تصل فيه نسبة الفقر في الجهات المحرومة وفي الأحياء الشعبية إلى 70 %، الأمر الذي يعد مؤشرًا قويًا على أن التونسيين لم يجنوا من سنوات الثورة سوى حالة عميقة من الفوارق الاجتماعية، والفقر، والبؤس الاجتماعي، في وقت كانوا ينتظرون فيه أن تقود ثورتهم إلى مجتمع أكثر توازنًا بين فئاته من خلال تأمين الحد الأدنى من العدالة في تقاسم عائدات الخيرات.
ويرجع الخبراء هذا الارتفاع السريع لعدد الأثرياء في تونس مابعد الثورة إلى «فوضى الاقتصاد المتوحش المنفلت من أية ضوابط»، وهي فوضى انتشرت خلال السنوات الأخيرة نظرا لغياب المراقبة خاصة على الحدود التونسية الغربية مع الجزائر والحدود الشرقية مع ليبيا. ويرتبط «الأثرياء الجدد» بتنامي ظاهرة تهريب الأسلحة التي نشطت بكثافة خلال السنوات الأخيرة، إلى جانب تهريب المخدرات والمنتجات الصينية، ومختلف المواد الاستهلاكية بما فيها المواد الغذائية.
ويعرف الخبير الاقتصادي معز الجودي «أثرياء تونس الجدد» بـ«أثرياء التهريب والإرهاب وتهريب السلاح والبضائع الذين «تمعشوا»(استفادوا) من الثورة وضعف أجهزة الدولة الرقابية». ويشدد الجودي على أن «هناك مافيا كبرى تعمل في مجال المحروقات وغيرها ومليارات يتم استعمالها لتهريب السلع من الجزائر وليبيا ويستثمرون في تهريب السلع»، مفيدا أن «هذا الاقتصاد الموازي ينخر الاقتصاد الرسمي إضافة إلى أنه يولد الإرهاب والتهريب ويفضي إلى تبييض الأموال». واحتلت تونس المرتبة الخامسة عالميا في تبييض الأموال، حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية. ووفق تقرير نشره البنك الدولي في كانون الأول/ديسمبر 2013، يتكبد الاقتصاد التونسي سنويا خسائر بقيمة 1.2 مليار دينار (حوالي 1 مليار دولار) بسبب «التجارة الموازية» مع الجارتين ليبيا والجزائر. وذكر البنك أن التهريب والتجارة غير الرسمية يمثلان «أكثر من نصف المبادلات مع ليبيا».
وتقول السلطات التونسية إن ممارسة التجارة الموازية ضخت خلال السنوات الأربع الماضية أكثر من 5 مليارات من الدنانير (حوالي 2.5 مليار دولار) لفائدة شبكات الإرهاب التي يقودها «الأثرياء الجدد». أنماط استهلاك تظاهرية مع بروز «طبقة الأثرياء الجدد» اخترقت المجتمع التونسي ظاهرة مايعرف في علم الاجتماع بـ«أنماط الاستهلاك التظاهري» لتتفشى سلوكيات استهلاكية لا تعكس فقط حدة الفوارق الاجتماعية، وإنما تؤجج لدى أكثر من 70 % من التونسيين المنتمين للطبقتين الوسطى والفقيرة نوعا من الحقد الاجتماعي، يرافقه سخط على السلطة السياسية التي خذلت غالبية التونسيين بعد أن ساهمت سياساتها الفاشلة وغير العادلة في تقسيم الخارطة الاجتماعية إلى« ثلاث جزر» كل جزيرة تمثل «مجتمعا قائما بذاته»: «جزيرة الأغنياء» التي تعلو سلم الهرم الاجتماعي، «جزيرة الفئات الوسطى المتآكلة» و«جزيرة الفقراء» الغارقة في مستنقع الدرك الأسفل من الهرم.
خلال أربع سنوات فقط زج الثراء الفاحش بالأثرياء الجدد في أنماط استهلاكية استفزازية بعد أن انسلخوا من «بيئتهم الاجتماعية»، إذ ينحدر 75 % منهم من فئات اجتماعية متواضعة، نزحوا من أحيائهم السكنية الشعبية ومن الجهات الداخلية ليلتحقوا بأحياء من سبقوهم في الثراء مثل حي النصر وأحياء المنازه الواقعة شمال تونس العاصمة، بل زاحموا حتى العائلات الأرستقراطية التي ورثت الثراء جيلا بعد جيل، خاصة في أحياء قرطاج على ضفاف مياه البحر الأبيض المتوسط، ليسكنوا في فلل فاخرة يتجاوز سعر الفيلا الواحدة 3 ملايين دينار (حوالي 1.5 مليون دولار) فيما يقطن 30 % من فقراء تونس في «بيوت»غير صحية ، ومتواضعة جدا.
وتبدو سياقة أحدث أنواع السيارات الفارهة إحدى أبرز أنماط الاستهلاك التظاهري لأثرياء تونس الجدد، لكونها تعد مقياسا للمكانة الاجتماعية المكتسبة فيما تعجز الأسرة المنحدرة من الطبقة الوسطى على اقتناء سيارة شعبية ولا تجد أمامها من حل لذلك، سوى التداين من البنوك. وفيما يلتجئ الفقراء إلى أسواق الألبسة المستعملة المنتشرة في أغلب المدن والأحياء السكنية، يتظاهر الأثرياء بالألبسة المستورة من فرنسا وإيطاليا الحاملة، لشعار الماركات العالمية، مستنكفين عن الاقتراب من الألبسة المحلية. على الرغم من أن مستواهم التعليمي متدن وكثير منهم أمي، فإن الأثرياء الجدد يمثلون حالة استثنائية بالنسبة لأنماط الاستهلاك لدى غالبية التونسيين.
وكان البنك الدولي نشر تقريراً مع مطلع سنة 2015، شَخَّصَ فيه وضع البنوك التونسية وأكد أنه بعد 4 سنوات من الثورة لم يتغير كثيرًا لا سيما على مستوى التشريع. واعتبر البنك الدولي أن تحسين كفاءات النظام البنكي تَمُرُّ عبرإعطاء الأولوية لتطبيق القوانين التنظيمية للبنوك بكل دقة وصرامة مع ضرورة تعديل طرق اتخاذ القرار ودور الدولة في الجهاز المصرفي. وأكدَّت ْوثيقة البنك الدولي على الحاجة المُلِحَّة لتعزيز التشريع وخاصة في مسائل تصنيف القروض والمخصصات وإشراف البنك المركزي التونسي على بسط رقابة فعلية على جميع مؤسسات الائتمان. والأهم تسليط عقوبات صارمة عند انتهاك قواعد التصرف السليم. فالقطاع البنكي في تونس مريض اليوم لذلك لا يمكن توقع لا نمو ولا استثمار إذا ما ظل القطاع على حاله. أما الفَسَادَ فهو أحد عِلَلِ القطاع وأكبر دليل أن حوالي 12 مليار دينار(6مليارات دولار) ديون مصنفة ومشكوك في استرجاعها، وذلك جرَّاء غياب الْحَوْكَمَةِ وعدم احترام قواعد التصرف الحذر والمعايير الدولية المعمول بها، فنسبة استرجاع الديون في البنك لا تتجاوز 13 % ما يؤشر على ضعف الحوكمة الرشيدة وعدم احترام معايير التصرف. ولم تفعل الحكومات المتعاقبة أي شيىء لإصلاح القطاع البنكي، من جراء غياب الإرادة السياسية، ماجعل الحكومات ما بعد الثورة تتجه فقط لموضوع الرسملة.
وكشفت معطيات «سويس ليكس» أن 256 تونسياً يتوزعون بين أشخاص معنوية وشركات لهم ما يقرب عن 679 حسابا بقيمة 554.2 مليون يورو في بنك HSBC في سويسرا. وأعلنت النيابة العمومية عن طريق ناطقها الرسمي مباشرة بعد تداول هذه التسريبات إعلاميًا عن فتح بحث تحقيق ضد كل من سيكشف عنه البحث من أجل غسل الأموال ممن استغل التسهيلات التي خولتها له خصائص وظيفته أو نشاطه المهني والاجتماعي. لكن غياب الأطر القانونية اللازمة ووجود أخرى معرقلة ستحول دون تتبع مثل هذه القضايا ولن يكشف الكثير حول هذه العمليات.
فضلاً عن ذلك ، فقد استقرت نسبة التضخم عند حدود 6%، أما مستوى التهرب الجبائي فقد بلغ نسباً قياسية، وقد كلف خزينة الدولة سنة 2014 ما قدره 10مليارات دينار، (حوالي 5 مليار دولار)، وهو ما يمثل 35% من الإيرادات الإجمالية الجبائية وغيرها للبلاد التونسية برمتها. ووفقا لخبير البنك العالمي «غايال رابالان » خلال أشغال يوم دراسي نظمه قبل أسابيع قليلة مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية، حول موضوع «الإرهاب والتهريب: انتهاك لحقوق الإنسان » تتكبد تونس سنويا خسائر جبائية تقدر بـ1.2 مليار دينار، بسبب التجارة الموازية والتهريب، كما تخسر الجمارك التونسية سنويا 500 مليون دينار بسبب التجارة الموازية، مبينا أن قيمة التجارة الحدودية بين تونس والدول المجاورة (ليبيا والجزائر) تتجاوز 1.8 مليار دينار سنويا، أي ما يعادل 5 % من جملة الواردات الرسمية.
6-8: أثــريـــاء الثـــورة فــي تونس، الأسياد الجدد ()
أفضت تحريّات قوات الأمن إلى كشف النقاب عن عدد من الأثرياء الجدد في تونس ما بعد الثورة أو بالأحرى «الأسياد الجدد» الذين كوّنوا ثروات طائلة من الصعب حصرها، مصدرها متأتّ أساسا من التهريب بشتى أنواعه، وأخطرها الأسلحة والمخدرات. وسقطت بعض الأقنعة مع انتحار «أمير الحدود» التونسيّة حسن معيز، أحد أكبر المهرّبين التونسيّين الذي يدير شبكة واسعة انطلاقا من معتمدية بن قردان المحاذية للحدود الليبيّة. تخصّص حسن معيز في تهريب السلاح وتسفير الشباب إلى بؤر التوتّر ونجح في التخفي لا سيّما من خلال التحوّل إلى ليبيا على متن سيارة إسعاف.
وألقي القبض على عائلة «وشواشة» المعروفة بملوك الصحراء والمتكوّنة من ستّة أشقاء اختصّوا في تهريب الأسلحة و«الفوشيك» والمواد المخدّرة والسيّارات المسروقة واستغلوا الفراغ الأمني طوال السنوات التي تلت أحداث 14 كانون الثاني/يناير2011 لإقامة إمبراطوريّة للتهريب يحسب لها ألف حساب من قبل المهرّبين التونسيّين، جعلت منهم أثرياء في ظرف وجيز للغاية. وبعد مرور خمس سنوات على الثورة التونسية تمكّن «الأسياد الجدد» من التحكّم في دواليب التهريب وتبييض الأموال ومن تركيع الاقتصاد التونسي، إذ أنّ الاقتصاد الموازي وما يدور حوله من مثل هذه الأعمال المحظورة ومن تجارة غير منظمة بات ندا للاقتصاد المهيكل، فالدراسات والإحصائيات الرسميّة تشير إلى أنّه يمثل 50 بالمائة حاليّا.
7-8:توسّع رقعة الفقر في تونس إلى 30% مع بروز ظاهرة الفقراء الجدد مقابل ظهور أثرياء الربح السهل ()
أظهرت دراسة اجتماعية ميدانية أعدها مؤخرًا مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالتعاون مع الجامعة التونسية «رقعة الفقر توسعت خلال السنوات الأربع الماضية بنسبة 30 % بعد أن تآكلت الشرائح السفلى من الطبقة الوسطى وفقدت موقعها الاجتماعي لتتدحرج إلى فئة الفقراء نتيجة التحولات الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية في ظل نسق تصاعدي مشط لارتفاع الأسعار مقابل سياسة تأجير شبه جامدة مما أدى إلى بروز «ظاهرة الفقراء الجدد» بعد أن تدهورت المقدرة الشرائية لتلك الشرائح بشكل حاد».وتقول الدراسة التي شملت 5300 عينة موزعة على كامل أنحاء البلاد أن «الفقراء الجدد» يمثلون نسبة 30 % من العدد الجملي لفقراء تونس البالغ عددهم نحو مليوني فقير من جملة 10 ملايين هم عدد سكان تونس. وتعرف الدراسة الفقراء الجدد بـ«صغار الموظفين بالإدارة والمدرسين بالمدارس الابتدائية والإعدادية والعمال والأجراء الذين لا تتجاوز مرتباتهم وأجورهم الشهرية 700 دينار أي حوالي 450 دولار».
أولاً:الاضطرار إلى عمل ثان ()
وقادت نتائج الدراسة إلى أن 87 % من الفقراء الجدد «اضطروا إلى مهنة ثانية لا تتناسب ومكانتهم الاجتماعية مثل ممارسة تجارة المواد المهربة وبيع الخضار والمواد الغدائية والجزارة وبيع الألبسة ومنهم من يعمل كبائع متجول في الشوارع. ويرجع أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية طارق بالحاج بروز «الفقراء الجدد»، وفق ميدل ايست، إلى «عمق التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها تونس خلال السنوات الأربع الماضية في ظل أزمة حادة مزقت منظومة النسيج الاقتصادي والاجتماعي وهزت المكانة الاجتماعية لعديد الفئات من المجتمع وفي مقدمتها الشرائح السفلى من الطبقة الوسطى التي لم تتحمل تداعيات التحولات وعجزت على مجابهة انفلات الأسعار ما أدى إلى تدهور حاد في مقدرتها الشرائية ومن ثم انزلقت لتلتحق برقعة الفقر».
وبحسب بيانات منظمة الدفاع عن المستهلك فقد تدهورت المقدرة الشرائية للتونسيين خلال السنوات الأربع الماضية بنسبة 40 % جراء ارتفاع مشط في أسعار المواد الاستهلاكية وخاصة الغذائية بنسبة 100 % وبلغت في بعض المواد 200 % جراء انهيار منظومة الرقابة الإدارية و«سطوة» شبكات متخصصة في الاحتكار والتهريب والمضاربة وتحكمها في مسالك التوزيع التي كانت تخضع لمنظومة من الإجراءات التعديلية والعقابية.
ثانيًا:الوضع أفضل قبل الثورة ()
وقال 93 % من الذين شملتهم الدراسة إن وضعهم الاقتصادي والاجتماعي قبل الثورة كان أفضل بكثير مما هو عليه الآن، فيما أكد 71 من المستجوبين أن الوضع في تونس كان يمكن أن يكون أحسن لو لم تقم الثورة. وتؤكد مثل هذه المؤشرات أن غالبية التونسيين يعتبرون أنفسهم «ضحايا» لثورة قوضت ومن الأساس أوضاعهم المعيشية وزجت بتماسك المجتمع وبتضامنه في حالة من التفكك والفوارق الاجتماعية المجحفة. وفي ظل تراجع أداء مؤسسات الدولة ودورها في الحفاظ على التوازنات الاجتماعية سواء من خلال نظام تعديل السوق أو بحماية الفئات الهشة من شراسة الاقتصاد المتوحش عبر سياسات الترفيع في الأجور بدا «الفقراء الجدد» ضحية لمنظومة معقدة من شبكات الاحتكار والمضاربة تقودها عصابات من الأثرياء الجدد، وفق نفس المصدر.
ثالثًا: تفكك اجتماعي ()
ويرى الخبير في التنمية الاجتماعية عبدالمجيد البدوي أن «ظاهرة الفقراء الجدد» لا يمكن فهمها بمعزل عن تفكك البناء الاقتصادي والاجتماعي وهيمنة وتحكم عقلية الربح السهل من أجل الثراء السريع على عقلية الجهد والعمل، ملاحظا أن «ذلك التفكك وتلك الهيمنة أغرقت فئات واسعة من المجتمع في مستنقع الفقر، وبالمقابل كانت الطريق الأسهل لثراء فئة محدودة». ويضيف البدوي «إن السنوات الأربع الماضية شلت دور الدولة في المجتمع، كانت الدولة هي الحامية والراعية للحد الأدنى من التوازن بين مختلف الفئات من خلال سياسات اجتماعية تحمي من توسع رقعة الفقر، أما اليوم فدور الدولة الحامية والراعية للفئات الهشة قد انتفى وأصبحت تلك الفئات تحت رحمة سوق اقتصادية متوحشة تتحكم في شرايينها عصابات هي أقرب للمافيا منها للتجار».
رابعًا:أثرياء الربح السهل ()
مقابل ظاهرة «الفقراء الجدد» قفزت خلال السنوات الأربعة الماضية فئة محدودة من المجتمع التونسي إلى أعلى الهرم الاجتماعي لتكون ما يطلق عليهم التونسيون «الأثرياء الجدد» مستفيدين من «الربح السهل غير المشروع» الذي سرى في المجتمع بعد ان انهارت منظومة من القيم كانت تعلي من شأن «الكسب المشروع» المتأتي من الجهد والعمل. ووفق بحث جامعي أعدته كلية العلوم الاقتصادية، يستحوذ 10 % من التونسيين على 80 % من ثروات البلاد، فيما يتقاسم 90 % من التونسيين فتات 20 % الباقية من الثروات؛ الأمر الذي يؤكد أن الفوارق الاجتماعية تعمقت بين الفئات بشكل غير مسبوق في تاريخ تونس.
وقادت السنوات الأربع إلى مشهد اجتماعي تعصف به مظاهر الفقر المدقع ومظاهر الثراء الفاحش، إذ في الوقت الذي يعيش فيه 10 % من التونسيين على حوالي 300 دولار سنويا يترفه 20 % بما يتجاوز 120 ألف دولار، مما أفرز سلوكيات استهلاكية مستفزة بدءًا بظهور طراز جديد من القصور في الأحياء الراقية إلى أحدث أنواع السيارات الفارهة، في حين تنتشر على مشارف المدن الأحياء القصديرية والطينية.
ويقول الخبراء أن عزوف 5 ملايين من بين 8 ملايين ممن يحق لهم الانتخاب عن التصويت خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية الماضية التي شهدت اقتراع حوالي 3 ملايين ناخب هو مؤشر قوي على أن أكثرية التونسيين لا يضعون الديمقراطية في أعلى سلم أولوياتهم. وتؤكد الدراسة التي أعدها مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية رأي الخبراء حيث شدد 87 % من المستجوبين على أنهم يختزلون مطالبهم في «توفير لقمة العيش أولا» فيما قال 13 % فقط أنهم يطالبون بالديمقراطية. ورأى 76 من المستجوبين أن الديمقراطية لا تعني شيئا في ظل تردي مستوى المعيشة، فيما أجاب 24 % أن الديمقراطية تعني الكثير بالنسبة إليهم. ويعلق الخبير عبدالمجيد البدوي على هذه المؤشرات قائلا «الوضع الاقتصادي والاجتماعي» يبقى هو العنصر الأكثر تأثيرا في اتجاهات الرأي العام إذ في الوقت الذي تضع فيه الفئات المترفهة «الديمقراطية» في صدارة «مطالبها» تتمسك الفئات الفقيرة بأن «تأمين العيش الكريم» يبقى «أولوية الأولويات»، بحسب تصريحاته لنفس المصدر.
9-المؤسسات المالية المانحة وخصخصة الدولة التونسية
كانت الثورة التونسية نتيجة طبيعية لوصول الأنموذج التنموي السابق إلى مأزقه المحتوم بشهادة جميع المؤسسات الدولية الليبرالية من بنك دولي، و صندوق نقد دولي، ووكالات وتصنيف و منتديات عالمية ،أو بصيغة مقتضبة كاملي حارسي المعبد الليبرالي الجديد المسيطر حاليا على الاقتصاد الدولي، وعلى الفكر الليبرالي الدوغمائي. ولا أدل على ذلك التقرير الذي أصدره البنك الدولي المخصص لتونس في عام 2014، والذي أعلن فيه عن موت النموذج السابق وضرورة إيجاد نموذج بديل.
مع بداية عام 2011، وبعد أن أنجزت تونس ثورتها السلمية التي باتت تلقب بقاطرة «ربيع الثورات العربية» ، اعتقدت الحكومة التونسية برئاسة السيد الباجي قائد السبسي آنذاك، أن الدول الغربية التي أيدت تطلعات الربيع العربي، ستأتي لنجدتها من خلال تقديم المساعدات المالية الضرورية لخروج البلاد من أزمتها البنيوية العميقة. هذا ما تضمنه نظرياً على الأقل بيان قمة مجموعة الثماني التي عقد ت في منتجع دوفيل على بحر المانش، شمال فرنسا يومي 26 و 27 مايو 2011، وضمّت رؤساء الدول الصناعية الكبرى في العالم (الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، إيطاليا، كندا، وروسيا)، و كذلك رئيس الحكومة المصرية السابق الدكتور عصام شرف، والوزير الأول التونسي الباجي قائد السبسي، أطلق زعماء دول مجموعة الثماني شراكة طويلة الأمد مع تونس ومصر، وجاء في البيان الختامي لقمة مجموعة الثماني حول «الربيع العربي» مايلي: «لقد أطلقنا شراكة دوفيل، ونحن على استعداد لفتح هذه الشراكة الشاملة والطويلة الأمد لكل دول المنطقة التي تبدأ عملية انتقالية نحو مجتمع حر ديموقراطي و متسامح».
رغم أن مصر وتونس اللتين حضرتا قمة مجموعة الثماني في دوفيل الفرنسية لم تجدا ذلك الدعم المالي المطلوب، فإن الشراكة التي اقترحتها دول مجموعة الثماني مع «الربيع العربي» رست على تكليف الصناديق المالية الدولية والدول الخليجية العربية بتقديم قروض تبلغ حوإلى 40 مليار دولار. وفي هذا السياق، امتنعت الولايات المتحدة الأميركية عن تقديم أي التزامات مالية واضحة لتونس ومصر، وتكفلت البنوك الدولية المتعددة الأطراف، مثل (صندوق النقد الدولي، والبند الدولي، والبنك الأوروبي للاستثمار، والبنك الأوروبي لإعادة الإعماروالتنمية، والبنك الإفريقي للتنمية، والبنك الإسلامي للتنمية) برصد 20 ملياردولارتحت إشراف البنك الدولي، منها 5.3 مليارات يورو لمصر وتونس من عام 2011 إلى 2013 من مصرف إعادة الإعمار لدعم عملية الإصلاح الجارية. وقال الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي إنه علاوة على 20 ملياردولار سيقدمها البنك الدولي وجهات إقراض إقليمية أخرى تهيمن عليها القوى الكبرى سيكون هناك مبلغ مماثل من مصادر أخرى عبارة عن 10 مليارات دولار من دول عربية خليجية و10 مليارات من حكومات غربية غنية أخرى.
فيما حمل رئيس الوزراء التونسي السابق الباجي قائدالسبسي خطة تنمية اقتصادية واجتماعية تحتاج إلى استثمارات بنحو 125 مليار دولار على مدى خمس سنوات، لإطلاق اقتصاد ما بعد الثورة وتعويض خسائر تونس المتراكمة، حيث أن الجزء الأكبر من هذا المشروع (100 مليار دولار) سوف تتحمل تونس تكاليفه. و قال الباجي قائد السبسي بعد انتهاء قمة دوفيل : نحن نطالب الأسرة الدولية ألا تغطي إلا جزءاً صغيراً من المبلغ، وهو 25 مليار دولار، على امتداد خمس سنوات ، بينما ما حصلنا عليه فعليا لا يتجاوز 3.1 مليار يورو، علماً بأن المبلغ المقدر بنحو 40 مليار دولار، و الذي رصد للربيع العربي، سيحدد أمر توزيعه مؤتمر لوزراء اقتصاد الثمانية، وهو المؤتمر الذي لم ير النور منذ تلك القمة.
ومنذ عقد الثمانينيات، و تحديدا عام 1985، أعادت السلطات الحاكمة في تونس التفكير في معتقدات التنمية القويمة، التي سادت خلال العقود التي تلت الإستقلال بعد أن انتهجت إستراتيجيات التدخل الحكومي المُكَثف في الحياة الإقتصادية وما صاحبها من قيود إدارية وإجرائية للنظام العام في إطار بسط نفوذه على قطاعات الدولة الإقتصادية، حيث أفرزت تلك الإستراتيجيات سلبيات عديدة كان لها أثرها المباشر في حدوث تغيرات إقتصادية وسياسية وإجتماعية في تونس ، وفرضت مؤسسات النقد الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، شروطها على البلاد، حيث بدأت بالظهور إستراتيجياتالإنفتاحالإقتصادي، وبإزدهار برامج الإصلاح الهيكلي (PAS ) في العام 1986، التي تجسدت فيما يلي : تحول شركات القطاع العام إلى قطاع خاص، وإنقلاب في البنى الإجتماعية، الذي يصعب السيطرة عليه، وإفقار شرائح كبيرة من الطبقات الشعبية والطبقات المتوسطة المدينية ( معلمون، صناعيون، موظفون من القطاع الثالث، تجارة، خدمات، تأمينات الخ. . رجال الادارة والديوان، مهندسون ) الذين كانوا تقليديا يعيشون في كنف الدولة المحدثة في تونس.
لقد أحدث برنامج الإصلاح الهيكلي لسنة 1986 نقلة نوعية للاقتصاد التونسي، إذ وضعته تحت رعاية و توجيه صندوق النقد الدولي والمنظمات الدولية المانحة على سكة النظام الرأسمالي ولا نقول الاقتصاد الليبرالي، لأنها كانت رأسمالية طفيلية مشوهة وسمها البنك الدولي نفسه ب«رأسمالية الأصدقاء والأقارب»، وليس ليبرالية حقيقية، هي يمكن لها أن تعيش كما يدل على ذلك اسمها إلا في مجتمع ديمقراطي تسود فيه دولة القانون، وكان من نتائج هذه الرأسمالية الطفيلية أن ضعفت الدولة التونسية، وأصبحت تعاني عجزاً على جميع الأصعدة، مما أفقدها دورها التاريخي وأفقدها ثقة المواطن، وهو الأخطر.
السيناريو الذي يعبر به عن هذا الواقع المزري للإقتصاد التونسي، هو أن المؤسسات الدولية المانحة بعد أن أوقعت تونس في شرك الديون، وبعد أن قامت تونس بتنفيذ (وصفة) صندوق النقد الدولي (برنامج الإصلاح الهيكلي)، وبعد أن تخلت الدولة عن كل سيطرتها باسم حرية التجارة والدخول في نظام العولمة الليبرالية المتوحشة، وبعد أن بيعت شركات ومؤسسات القطاع العام باسم الخصخصة، بعد كل هذا تهبط الشركات العملاقة العالمية عابرة القارات، لكي تلتهم الأراضي التونسية، وامتيازات التنقيب، و تتحول شركات القطاع العام والخاص إلى ملكية لهذه الشركات العملاقة، ثم تجد السوق التونسية مفتوحة أمامها من دون حواجز جمركية لتصريف منتوجاتها بلا قيود وضرائب تذكر، كما تجد في الشعب التونسي عمالة رخيصة.
وبدلا من أن تتجه الحكومة التونسية المنتخبة إلى إعادة النظر بصورة جذرية في نموذج التنمية الاقتصادية والاجتماعية الليبرالي، والذي قاد تونس إلى إحداث ثورة اجتماعية، تستمر الحكومات المتعاقبة عينها في الطريق ذاته في الطور الراهن والذي سيقود إلى تطبيق ما يسمى بالإصلاحات الموجعة: الاستغناء عن ألاف من العمال والموظفين ، واستمرار تخفيض قيمة الدينار التونسي أمام العملات العالمية (دولار واحد يساوي في الوقت الحاضر دينارين تقريبا)، وخصخصة الدولة التونسية، وفتح أبواب تونس على مصراعيها أمام الشركات عابرة القارات، للقضاء على كل أنواع السيطرة الحكومية على الأجور والأسعار وإلغاء الدعم للسلع التي يستفيد منها الفقراء.
و تكمن الخطورة، في محاولة علاج الديون بمزيد من الديون، واستبدال بعض الديون ببيع القطاع العام، بمعنى أنه لكي تسدد دولة ما بعض ديونها تضطر إلى التخلي عن ممتلكات الشعب من الأرض والمؤسسات الصناعية والبنوك، أي الذهاب إلى خصخصة الدولة التونسية، حيث تفضل بعض الأحزاب الليبرالية والنخب التونسية المرتبطة بالغرب، أن تحصل على نصيب ما في شراء شركات القطاع العام بأسعار بخسة .
وكان «البنك الدولي» قال في تقرير بعنوان «الثورة غير المكتملة» في مايو2014 إن «الفساد يكبد تونس اثنين في المئة من إجمالي الناتج المحلي سنويا»، مشيراً إلى «تفاقم» هذه الظاهرة منذ الثورة، ومؤكداً أن «معدل انتشار الفساد في تونس بغرض تسريع الأمور، يعد من بين أعلى المعدلات في العالم حسب المعايير الدولية». وقد تراجع ترتيب تونس في لائحة الفساد لمنظمة الشفافية الدولية من المرتبة 59 في 2010 لتحتل المرتبة 79 في سنة 2014، من مجموع 175 دولة في مؤشرات مدركات الفساد بتراجعها نقتطتين عن ترتيب 2013 وبعشرين نقطة كاملة عن ترتيب 2010.
10-السلطة الحاكمة في خدمة الفساد والرأسمالية الطفيلية
في تقويم موضوعي لنتائج تجربة «الديمقراطية التوافقية» في ظل حكومة الإئتلاف المتكون من حزب النداء وحزب النهضة الإسلامي، وحزب آفاق تونس، والحزب الوطني الحر، يمكن القول أن الأحزاب الأربعة يجمعها قاسمٌ مشتركٌ، ألا وهو الإيمان بالليبرالية الاقتصادية، والاندماج في نظام العولمة الليبرالية عبر الاعتماد على المؤسسات الدولية المانحة والدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية ، من أجل الحصول على القروض، وجلب الإستثمارات ، واتباع نهج التنمية الذي كان سائدًا خلال العقود الخمسة الماضية، والذي وصل إلى مأزقه مع بداية الألفية الجديدة، واندلاع الثورة مع بداية 2011.
ومن خصائص هذه الرأسمالية الطفيلية التونسية، أنها لم تبنِ اقتصادًا وطنيًا منتجًا ، بل إن كل أنشطتها الاقتصادية تركزت، في مجالات معينة تقع على هامش العملية الإنتاجية، مثل قطاع السياحة، وعمليات الوساطة والسمسرة، والمقاولات والمضاربات العقارية، إضافة إلى الحصول على التوكيلات التجارية، واحتكار منافذ توزيع السلع المستوردة، وتكريس التبعية الاقتصادية والمالية والتجارية الوثيقة تجاه الشركات الرأسمالية الكبرى، والاندماج في نطاق اقتصاد العولمة الليبرالية الأميركية المتوحشة، التي تقود إلى تنمية رأسمالية الصفقات، وتفكيك أواصر عمليات التصنيع المحلي واتجاه النشاط الرأسمالي في مجالات الاستيراد والتصدير والنقل والمواصلات وغيرها من الخدمات المعاونة.
أجمع المحللون الملمّون بالشأن التونسي أن تركيبة الحكومة السابقة التي تشكلت مع بداية سنة 2015 بزعامة الحبيب الصيد، لا تمثل الخيار الأمثل لمواجهة تحديات المرحلة الحالية، ولاسيما في شقها المتعلق بمحاربة الإرهاب، وحل المسألة الاجتماعية، وفي القلب منها البطالة في الولايات الفقيرة والمهمشة، فهذه الحكومة لم تطرح في برنامجها القطع مع منوال التنمية القديم القائم على المزاوجة بين رأس المال الأجنبي مع دولة ما بعد الاستقلال والذي قاد إلى نمو الرأسمالية الطفيلية السائدة في تونس، التي تعيش الآن أزمة هيكلية كبيرة ،نتيجة إندماجها، وبدرجة كبيرة، بالرأسمالية الأم في أوروبا وأميركا، بل إن حكومة الصيد جاءت لتسير في نفس منوال التنمية القديم الذي أثبت إفلاسه التاريخي، ولكي تبرم اتفاقات دولية مع المؤسسات الدولية المانحة: صندوفق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، تضطرها لفتح السوق التونسية ومجالاتها الوطنية أمام الاستثمارات الأجنبية، لإنقاذ هذه الرأسمالية الطفيلية المأزومة، التي تبدو الآن في وضع معقد ومربك، ودفعتها الظروف الاقتصادية المحلية، وإسقاطات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية على أوضاعها إلى مزيد من الارتباط بالحكومة الحالية لعلها تسهم في إخراجها من أزمتها.
ويعتبر ملف محاربة الفساد ملفاً مفصلياً في نجاح أي حكومة ما بعد الثورة، فالمراقب للوضع السياسي التونسي يلمس بوضوح أن الحكومات المتعاقبة سواء في عهد الترويكا السابقة بقيادة حركة النهضة، أم في عهد رئيس الحكومة المتخلى مهدي جمعة ، لم تبلورخطة حقيقية لمقاومة الفساد، و إقرار الحوكمة الرشيدة، بل إن جميعها همَّشت ملف الفساد، فالأحزاب المكونة لحكومة الترويكا السابقة، أو التي تشكلت منها جكومة الحبيب الصيد السابقة لم تطرح في برامجها السياسية مسألة محاربة الفساد كمسألة محورية، و إن كانت تدرج هذا الملف ضمن شعاراتها الانتخابية. والحال هذه أصبحت الحكومة المتعاقبة الثماني منذ تشكلها فاقدة لكل إرادة سياسية لمحاربة الفساد، لأن الأحزاب الموجودة في صلبها تتجنب الإحراج في طرح هذا الملف نظرا لعلاقتها بالمال السياسي، وأيضا لعلاقتها برجال الأعمال المتورطين في قضايا فساد. وكان ملف رجال الأعمال النقطة السوداء في سجل الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة.
وكانت أحزاب المعارضة الديمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني، تطالب الحكومة الحالية بمحاربة الفساد، من أجل استرجاع الأموال المنهوبة. وكان الفساد استشرى في عهد نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وبطانته التي استطاعت أن تحتكر لنفسها مع نهاية 2010 ما نسبته 21 % من أرباح القطاع الخاص في البلاد، وسمح نظام بن علي خلال فترة حكمه التي استمرت 23 عاما، لعدد من أفراد عائلته وعائلة زوجته وعدد من أصهاره بالتحكم في مفاصل الاقتصاد التونسي ليمكّنهم من مراكمة ثروات مشبوهة، تقدر ما بين 5 إلى 10مليار دولار، قسم منها مستثمر في الداخل، وقسم آخر في الخارج، لاسيما في أوروبا التي باشرت بعض دولها تجميد أرصدة وحسابات تابعة لبن علي وزوجته ومقربين منه.
وما زالت بنية السلطة القائمة في تونس ـ مع بعض التغيرات الخفيفة بفعل «الثورة» ـ تتعاطى مع الدولة، بوصفها دولة غنائمية، وهو ما يجعل المجموعات المتحالفة، سواء كانت مالية أو عائلية أو سياسية، بمنزلة قبائل متنفذة. كما ينطبق الأمر على الثقافة المجتمعية السائدة في الأوساط الفقيرة والمتوسطة، التي لا تتردد هي أيضا في ممارسة الفساد، عبر الرشى الصغيرة والكبيرة، للحصول على منافع أو لتحقيق رغبات، مستحَقة أو غير مستحَقة، مثل الفوز بشغل أو برخص بناء. وتدعم الأمر وتشجع عليه البيروقراطية التونسية السائدة، وريثة الاستعمار الفرنسي، بخصائصها المتمثلة بغياب النجاعة والتباطؤ المتعمد في حلحلة الملفات وغياب الشفافية، والعلاقات الشخصية والمحسوبية.
ويتعمق هذا الوضع مع «الاهتراء الاقتصادي» لفئة الموظفين المنتمية للطبقات المتوسطة، حيث بات أساتذة التعليم الثانوي، وأساتذة الجامعة، والإطارات العليا للدولة رمزا «للفقراء الجدد». وتدرك الحكومات المتعاقبة جيداً هذا الأمر، ولكنها توظفه في تمكين الحكم. أوَلم يقل محمد مزالي، أحد وزراء بورقيبة، أن «الرشوة التي يتلقاها البوليس، هي ليست رشوة بل هي تحسين وضعية»، مما يعني أن الحكومات المتعاقبة لا تمتلك بدائل تنموية حقيقية، فتستثمر في الفساد بوصفه متنفساً اقتصادياً لفئات اجتماعية وجدت نفسها غير قادرة على التغلب على مصاعبها إلا عبر الفساد المتمثل في الرشى والمحاباة والزبونية، وهي عقلية رسخها الحزب الحاكم المنحل.
كما يشتغل الفساد كأداة للابتزاز. فالمسؤولون الكبار الذين تكون لديهم ملفات فساد عادة ما تفتح ملفاتهم حين يتمردون على قرارات من هم أعلى منهم سلطة. ويقدر حجم الأموال المنهوبة في تونس مابين 29 و 32 مليار دولار، أي ما يعادل ضعف ميزانية الدولة التونسية لسنة 2015(29مليار دينار، أي ما يعادل 14مليار دولار)التي تعيش على الاستدانة الخارجية. ولم تقدر حكومات ما بعد الثورة على مواجهة المسألة بشكل جدي، على الرغم من وجود هيئة دستورية للفساد، ومحاولات المجتمع المدني وبعض الإعلاميين فضح الفاسدين. إلا أن الغطاء السياسي للفساد متين ومتنوع: أغلب الأحزاب المؤثرة في المشهد السياسي اعتمدت على «الأموال الفاسدة» لتمويل حملاتها الانتخابية ولشراء الأصوات، وهي أموال مصدرها يكون في غالب الأحيان من رجال أعمال مستفيدين من التهرب الضريبي ومن الاقتصاد الأسود، إلى درجة أن تونس صارت دولة للمافيات المالية التي تمتلك الإعلام والصحف، ولها مرتزقة في كل مكان. والملاحظ أن نصف نواب البرلمان التونسي المنتخَبون بطريقة شرعية ونزيهة هم رجال أعمال خاضوا غمار السياسة بعد الثورة، ليس بفضل شعبيتهم وبرامجهم الانتخابية، بل بفضل تأثيرهم المالي على الأحزاب التي ترشحوا في قوائمها، الأمر الذي يعني أن الديموقراطية بمعناها الانتخابي لا تمنع الفساد بل من العكس من ذلك، فالفساد صار يستفيد من الديموقراطية في تونس، بالتوازي مع المنظومة الاقتصادية الليبرالية المتوحشة التي تتيح لقوى السوق أن تتنفذ بفعل المضاربات والتهرب الضريبي. الفساد في تونس صار أقوى من الحكومات!
لقد عملت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة على استمالة المنظومة السياسية الاستبدادية القديمة من رجال أعمال فاسدين و نهّابين للمال العام ، وتأليف قلوب منتسبيها من أصحاب المصالح المهددة لضمان الاستفادة من «خبراتهم» وإطلاعهم على القواعد الخفية لتسيير الدولة والاعتماد عليهم لتمويل حملاتها الانتخابية ومصاريف انتشارها الباهظة، فيما سارع أصحاب المصالح المهددة من ناحية أخرى، ولا سيما رجال الأعمال الفاسدين إلى الارتماء في أحضان هذه الأحزاب الآنفة الذكر، لضمان الحفاظ على امتيازاتهم. ويكفي للتدليل على ذلك ما برز أثناء الحملات الانتخابية من عدم التزام من الأحزاب الكبرى بقواعد تمويل الحملات الانتخابية، وهو أمر أقرّت به اللجنة المستقلة للانتخابات وكذلك العدد الهام من رجال الأعمال المنضمين للهياكل القيادية للأحزاب الناشئة حديثاً في تونس. وقد اعترف العديد من هؤلاء بتمويل أكثر من حزب عملاً بمقولة «لا تضع جميع بيضك في السلة نفسها».
وكرست الانتخابات الأخيرة في تونس، زبونية جديدة على حساب بناء مؤسسات ديموقراطية حقيقية تكرست أكثر من خلال التعيينات في مراكز الحكم (الوزراء وأعضاء الدواوين الوزارية) لا على أساس الكفاءة والنزاهة بل على أساس القرابة والاستمالة، كما ساهم هذا الأمر في تعزيز الإفلات من العقاب ومنع إقامة عدالة انتقالية حقيقية تسمح بالمرور إلى مرحلة جديدة من بناء الديموقراطية التونسية. ومن جهة أخرى برز التمويل الأجنبي لهذه الأحزاب كنوع من الفساد السياسي وتهديد جدي للمسار الديموقراطي وتحريف للتنافس السياسي النزيه. وعادة ما يتخفى هذا النوع من الفساد وراء أنشطة جمعياتية ظاهرها مساعدات اجتماعية وباطنها التأثير على الناخبين، خصوصاً في الأحياء الفقيرة. وقد أكدت دائرة المحاسبات بصفتها مكلّفة بالرقابة على تمويل الانتخابات عن صعوبة مراقبة هذا النوع من التمويل نظراً لتخفّيه وراء جمعيات تكون واجهة للتمويل غير المباشر لهذه الأحزاب.