IMG_5827

خالد غزال

بداية، لا بد من تثمين الجهد الذي بذله الدكتور توفيق المديني في إنجاز نص يضرب على وتر حساس في عالمنا العربي، حيث يضيء الكاتب، عبر الأرقام، على واقع قد يكون كثيرون يجهلونه. لقد زودنا المديني بمعلومات وأرقام حول المجتمعات العربية لجهة توزيع الثروات العربية، بل الأصح هدرها وتبذيرها، والفساد المستشري ونتائجه في سرقة هذه الثروات من قبل الفئات الحاكمة والقوى المتسلطة على المجتمع، والآثار التي ترتبت على هذا النهب والهدر. تبدو نتائج هذه الأرقام جلية اليوم وتتمظهر في حال الفقر الذي يطال أكثر من 28 بالمائة من سكان العالم العربي أي حوالي مائة مليون إنسان، وما يرافقه من بطالة وتهميش وجريمة وإرهاب، وغيرها من العناصر التي تهدد الأمن القومي العربي. أقول إن هذه الورقة، بالأرقام المحتشدة فيها، وبالمعلومات المرعبة عن حال الفساد والهدر، تشكل مرشداً مهماً في فهم الأسباب التي أدت إلى انفجار المجتمعات العربية في العقد الأخير من هذا القرن، والتي اتخذت شكل انتفاضات في عدد من الأقطار العربية، فيما تنتظر أقطار أخرى دورها. هذه الأرقام والتوصيفات في ورقة الدكتور المديني تضيء على جانب يجري تغييبه، وهو أن الانتفاضات جاءت نتيجة حتمية للاحتقان السائد في المجتمعات العربية ومن سياسات الاستبداد والديكتاتورية للأنظمة المتسلطة على هذه المجتمعات، وهو ما يدحض كل نظريات المؤامرة الخارجية التي قام عليها خطاب الأنظمة وبعض المثقفين الملتحقين بها. لا يضير هذه الانتفاضات أن بعضها تحول إلى حروب أهلية، وإلى دخول القوى الخارجية على خط التحولات، فهذه عوامل مختلفة عن أسباب الانفجارات، وبحثها يصبّ في قراءة بنى المجتمعات العربية واستعصائها على التغيير، وحال قوى المعارضة فيها، وهو بحث آخر يمكن أن يوصلنا إلى فهم مجريات ما يحصل اليوم.

بعد هذا التقديم، سأتطرق في تعقيبي إلى عدد من النقاط التي ركزت عليها ورقة الدكتور المديني.

أولاً ــ واقع توزيع الدخل والثروة في العالم العربي

في الورقة ما يكفي من معلومات تضيء واقع التوزيع، الذي يتسم بانعدام العدالة، وبالمفارقة الواسعة بين من تؤول إليه هذه الثروات من أقلية، وبين الغالبية العظمى من الشعوب العربية التي لا تنال سوى الفتات من هذه الثروات. ثراء فاحش لقلة وفقر مدقع للأغلبية الساحقة. والعالم العربي في معظمه، يمتلك ثروات هائلة إذا ما جرى توظيفها في التنمية الشاملة، يمكن لها أن تضع الشعوب العربية في مستوى معيشي جيد، وأن تؤدي إلى الحد من الإفقار والأزمات الاجتماعية الناجمة عنه. وهذا التوظيف الإنمائي للثروات العربية إذا ما جرى، سيؤدي مباشرة إلى توزيع عادل للدخل، بما يجعل المواطن العربي في مستوى أرقى البلدان المتقدمة. من حق المواطن العربي أن يتساءل، ومن حق الباحثين من خارج العالم العربي التعجب من واقع عربي يختزن الثروات الهائلة والموارد المالية الضخمة، عن سبب الإقامة المديدة لهذا العالم العربي في الفقر والتخلف وانعدام الرعاية، وصولاً إلى أرقام تضع سكان هذا العالم العربي في أدنى الدرجات من التخلف قياسا على مجتمعات لا تملك سوى النزر اليسير مما تملكه البلدان العربية.

لا تستعصي الإجابة عن هذه التساؤلات، فالإجابات تذهب فورًا إلى طبيعة الأنظمة الحاكمة والطبقات المتحكمة في ثروات البلاد، واحتكار ونهب هذه الثروات ووضعها في خدمة بقاء النظام وبناء أجهزته القمعية ورشوة أقلية من المنتفعين، وتكريس استبداد سياسي يحمي هذا النهب.

ثانيا ــ هدر الثروات العربية وغياب مشاريع التنمية

تفتح النقطة السابقة على البحث في كيفية هدر هذه الثروات والميادين التي يطالها، وهي نقطة مرتبطة بالنقطة المتعلقة بتوزيع الثروة والقوى المنتفعة من هذا التوزيع. يتجلى الهدر في إنفاق الثروات العربية في ميادين لا تصب في التنمية الشاملة. جرى هدر هائل في الإنفاق على الجيوش العربية وعلى شراء الأسلحة، وهي جيوش بدت وظيفتها على امتداد العقود الماضية، في خدمة الديكتاتورية والاستبداد، أكثر منها في الدفاع عن مصالح الشعوب أو التصدي للعدو القومي الصهيوني. جرت، ولا تزال تجري، صفقات بين الدول العربية والقوى الغربية لشراء أسلحة بمليارات الدولارات، وهي أسلحة تفتقر إلى الكادر الذي يستخدمها، ويبقى استخدامها رهينة القوى التي باعتها، والأهم عدم استخدامها ضد إسرائيل، وهو أمر تلتزم به الأنظمة العربية كما بدا في السنوات الأخيرة حيث استخدم هذا السلاح في قهر الشعوب المنتفضة وقتل مئات الآلاف من أبناء الدول العربية وتدمير البنى التحتية لهذه المجتمعات.

وتتجلى ميادين الهدر في توظيفات الأموال والثروات العربية. يصرف القليل من هذه الثروات على مشاريع محلية لا يمكن تصنيفها أنها تصب في خدمة تنمية مجتمعية شاملة تطال معظم قطاعات الإنتاج، وتؤدي في النتيجة إلى تحسين مستوى معيشة الشعب، وتدخل البلاد إلى العصر مستفيدة من إنجازات الثورة التكنولوجية والتقدم العلمي ووضعه في خدمة هذه التنمية. إن معظم الثروات ترسل إلى خارج العالم العربي، وتوضع في بنوك أميركية وأوروبية، ويجري توظيفها في ميدان البورصة بكل ما تحمله من احتمالات خسائر تصيب هذه الرساميل بسبب الأزمات المالية التي تضرب البورصة وتؤدي إلى خسائر بمئات الملايين من الدولارات. في هذا المجال أشير إلى أن الأزمة المالية التي ضربت الأسواق العالمية في عام 2008، أدت إلى خسائر طالت رؤوس الأموال العربية ووصلت إلى حوالي 2500 مليار دولار، وهو رقم موثوق صدر عن رئيس جمعية المصارف اللبنانية آنذاك، وهو مبلغ كاف لإنعاش معظم دول العالم العربي والحد من الفقر فيها لو جرى توظيفه في مشاريع تنموية. يضاف إلى ذلك أن هذه الأموال المودعة في البنوك الأجنبية تصبح رهينة الدول المستقبلة لها، وفي كل أزمة مع العالم العربي، يجري تجميد هذه الرساميل ومنع سحبها أو تحويلها من قبل مالكيها.

لا يمكن إنكار حصول مشاريع في معظم العالم العربي، يخلط فيها باحثون واقتصاديون في توصيفها تنمية، فيما هي في الواقع عملية نمو تقتصر على قطاعات محددة همّها تأمين أرباح عالية، ولا يدخل في حسابها تحسين مستويات المعيشة. فيما تشترط التنمية أن تطال كل القطاعات الإنتاجية، وتدخل فيها قوى بشرية واسعة، ويكون هدفها الأصلي إفادة الشعب كله من المشاريع التنموية بما يسمح بازدهار اقتصادي ورفع مستوى المعيشة. وعلى رغم ادعاءات معظم، بل وكل الأنظمة العربية، بوضع خطط تنمية، خمسية أو عشرية، إلا أنها كانت في الممارسة أبعد ما تكون عن الهدف الذي ادعت أنها تسعى إلى تحقيقه. وهي نقطة تفتح على طبيعة الأنظمة القائمة وعلى الفساد المستشري فيها ودوره في إعاقة مشاريع التنمية.

خلال السبعينات من القرن الماضي، انتشرت في عدد من البلدان العربية “صيحات” إصلاحية تحت عنوان الانفتاح الاقتصادي وتحسين مستوى النمو وتخفيف القيود التي شكلت عائقاً في فك الحجز عن النمو والتطور على مختلف المستويات. لم يطل الأمر ليتكشف أن سياسة الانفتاح كانت وصفة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الذي وضع أسس برنامج هذا الاصلاح، والذي يقوم على تقليص الخدمات الاجتماعية ورعاية الدولة لمشاريع التنمية الشاملة، والخصخصة الشاملة ومنع تدخل الدولة. أدت سياسات الانفتاح إلى مزيد من إفقار البلدان التي اتبعتها، وإلى ازدياد عدد الأغنياء الذين استفادوا من هذه السياسة، وإلى مزيد من البؤس للغالبية العظمى من أبناء الشعب. لعل البارز في نتائج هذه السياسة حجم الفساد الرهيب الذي انتشر مترافقاً مع سياسة الانفتاح، والذي بدأ من القمة في السلطة ليصبح ثقافة عامة في المجتمع وعلى مختلف المستويات.

ثالثا ــ موقع الفساد في هدر الثروات العربية وتبديدها

عند الحيث عن الفساد في العالم العربي، يتوجب العودة إلى كتاب الدكتور المديني الذي صدر هذا العام بعنوان “تونس: الدولة الغنائمية في زمن الفساد العولمي” والذي يشكل مرجعاً أساسياً في إظهار العلاقة العضوية بين الفساد والأنظمة الديكتاتورية الاستبدادية، ليس فقط في العالم العربي، وإنما في سائر بلدان العالم، المتقدمة منها والمتخلفة.

لا يمكن فصل حال العالم العربي عن مجمل التطورات التي خلقتها العولمة في كل مكان. لا تخفى مسؤولية العولمة في انتشار الفساد في العالم. فحركة الأسواق الحرة والأموال الأجنبية وانعدام الرقابة، صاحبها انحلال في القيم والأخلاق وسلوكيات لا هدف لها سوى الوصول إلى المادة ونشر الرفاهية. هذه القيم المتصلة بالرفاهية عززت من ظاهرة انتشار الفساد عالميا، خصوصاً فيما يعرف بالبلدان السائرة نحو النمو، التي لم تأخذ من العولمة سوى شكلياتها وسلبياتها. والعولمة المتصاعدة والمخترقة لكل المجتمعات من دون استئذان، مسؤولة أيضا عن انتشار الجريمة المنظمة، وتفشي الفساد الإداري، وعن جرائم المخدرات والعنف والإرهاب، كما هي مسؤولة أيضا عن تقلّص موقع الدولة القومية بما يمس سيادتها، وتتسبب بأزمة المديونية، وارتفاع معدلات الهجرة وزيادة الفقر وارتفاع معدلاته، وزيادة حدة الاصطفاف الطبقي لجهة قلة من الأغنياء وأكثرية ساحقة من الفقراء..

تقوم علاقة عضوية بين الفساد وبين الأنظمة الديكتاتورية التسلطية الاستبدادية. تتجلى هذه العلاقة في الدول النامية أكثر منها في الدول الرأسمالية الغربية. في هذه الأنظمة الديكتاتورية، تتسلط الطبقة الحاكمة على ثروات المجتمع، وتوظفها في خدمة تركيز سلطتها، سواء عبر تمكين فئات محددة من ممارسة النهب أو عبر الرشاوى التي تقدمها هذه الطبقة الحاكمة إلى قوى معينة تراها مفيدة في تأمين مصالحها. في المرحلة الراهنة من حال المجتمعات النامية، يبدو حجم الفساد ونهب الثروات مرعبا، لا يقتصر على القوى المحلية المتحكمة بالسلطة والثروة، بل دخلت عليها القوى الأجنبية، سواء أكانت استعمارية أم غير استعمارية. أفادت هذه القوى من العلاقات مع الفئات الحاكمة لاستجلاب ثروات البلاد إليها، حتى ولو أدى الأمر أحيانا إلى تنظيم انقلابات تطيح بهذه الفئة أو تلك. لا يعني ذلك أن الفساد محصور بهذه الدول النامية، فالدول المتقدمة والمتطورة اقتصاديا في العالم الرأسمالي ينتشر فيها الفساد في ميادين متعددة، لكن المفارقة أن هذه الدول تحكمها قوانين ومؤسسات وتتوافر فيها هيئات رقابية قادرة على تعقّب مواطن الفساد ومرتكبيه. تضج وسائل الإعلام بفضائح فساد دوريا، تطال مواقع في الحكم والدولة، بعضها يمكن وضعه تحت مجهر التحقيقات القضائية، وبعضه الآخر تجري لفلفته.

كان هذا الاستطراد ضرورياً ليشكل مفتاح قراءة الفساد في العالم العربي، والذي يحتل موقعاً مركزياً في حجم الفساد المستشري في مجتمعاته، وهو فساد لم يعد يقتصر على الطبقات الحاكمة، المدنية منها والعسكرية والإدارية، بل طال في السنوات الأخيرة قاع المجتمع وأبنائه العاديين. يلجأ هؤلاء إلى الرشوة سعياً لتسيير شؤون أعمالهم، مما جعل الفساد سِمَة عامة على الموظفين الكبار والصغار على السواء. تتحمل النظم الاقتصادية التي نشأت في الدول العربية، ومعها سياسة الانفتاح التي قامت خصوصًا منذ السبعينات من القرن الماضي، والشراكة التي نشأت مع الشركات التجارية العالمية والعابرة للقارات، وهي سياسة أدت إلى شيوع الرشاوى وإنتاجها في الوقت نفسه. يقول الدكتور المديني في كتابه المشار إليه: “حصل تداخل كبير بين الدول العربية والشركات المتعددة الجنسية عبر مؤسسات شبه دولية، ومن خلال الوزارات .. وأصبحت الشركات المتعددة الجنسية تستخدم القنوات الكثيفة غير الرسمية المؤدية إلى جهاز الدولة، بواسطة الرشاوى ومنح الوكالات، لتؤثر على القرارات والامتيازات السياسية والاقتصادية”.

لكن العامل الأساس في انتشار الفساد عربيا إنما يعود إلى طبيعة السلطة القائمة، غير المستندة إلى شرعية شعبية، وتسود فيها الديكتاتورية والاستبداد التي تشكل الحاضنة التي تفرّخ الفساد وتنشره. بشكل أكثر توضيحا، نجم عن السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي قادتها النخب السياسية والعسكرية إلى ظهور طبقة هيمنت على القطاع العام، ودخلت في تحالف مع القطاع الخاص من أجل تحقيق الأرباح غير المشروعة. وفي غياب مؤسسات رقابية فاعلة، وبالطرق غير المشروعة، راكمت هذ النخب من الثروات الكثير، عبر نهب القطاع العام ومعه مواطن الإنتاج الأساسية.

في ورقة الدكتور المديني قراءة عامة حول الفساد في العالم العربي ودوره في تبديد الثروات، لكنه يعطي حيزًا لبلده تونس وللفساد السائد فيها، فيراه، على غرار ما هو سائد في العالم العربي، مرتبطاً بشكل عضوي بظهور الدولة البوليسية زمن عهد زين العابدين بن علي. مارست الفئة الحاكمة احتكاراً لمصادر الثروة، وأفادت من حكم الدولة البوليسية في الهيمنة على النشاط الاقتصادي، وشجعت الزبائنية والمحسوبيات. كل ذلك يجري وسط غياب أي شكل من أشكال المراقبة والمحاسبة. يشير الكاتب في هذا الصدد إلى “أن الفساد في ظل الدولة البوليسية التونسية ازدادت حدّته عندما لجأ أصحاب المناصب الرفيعة والعليا في النظام البوليسي إلى استغلال مناصبهم لتحقيق مكاسب مادية، وهؤلاء تحولوا مع مرور الوقت إلى رجال أعمال أو شركاء تجاريين إلى جانب وظائفهم الحكومية، يصرفون جل اهتمامهم إلى البحث عن طرق وأساليب تمكّنهم من زيادة حجم ثرواتهم على حساب الاهتمام ببرامج التنمية وتحقيق الرفاه والرضا لمواطني بلدانهم”.

لعل الثورة التي اندلعت في تونس في عام 2011 هي أحد نتائج الفساد في مستوياته المختلفة. كان العنوان المركزي لهذه الثورة المناداة بتطهير كافة مؤسسات الدولة من الفساد، ودعوة في الوقت نفسه إلى الحريات السياسية التي يشكل وجودها عنصرا أساسيا في كشف الفساد والتصدي له وإخضاعه إلى المراقبة السياسية والشعبية.

رابعا ــ هل يمكن إيقاف استنزاف الثروات العربية ووضع حد لهدرها؟

على امتداد عقود ساد في عدد من الأقطار العربية ما يعرف بالاقتصاد الريعي، الذي من سماته تقديم الخدمات للمواطن من دون أن تكون هذه التقديمات مرتبطة بإنتاجية. كانت تلك البلدان تملك ثروات كبيرة تسمح لها بشراء الجمهور ومنعه من الاعتراض على سياسة الدولة. في الأصل، وفي ظل هكذا نظام، حيث لا يدفع المواطن ضريبة على مداخيله، بل ينال هذا الدخل مجانا، فلماذا سيكون عليه أن يقوم بحراك سياسي ومطالبة بتغيير النظام، طالما أنه مدرك لما يقدمه له النظام القائم. من المعروف أن الحراك السياسي والاجتماعي في البلدان المتقدمة يعود في معظمه إلى كون المواطن يدفع الضرائب ويغذي خزينة الدولة، لذا يرى من حقه أن يعرف كيف وأين تُصرف موازنات الدولة، بما يجعل من بند الرقابة بندًا محوريًا في البلدان المتقدمة. في عالمنا العربي، إن سيادة الاقتصاد الريعي تلغي مطلب المراقبة، بما يتيح للفساد أن يتغلغل في النظام ويغطي ممارسات الطبقة الحاكمة على شتى أصنافها.

لم تعد ثروات الدول العربية، والنفطية منها خصوصاً كما كانت عليها لعقود خلت. إن سياسة الهدر والتبذير والإنفاق غير المجدي وصفقات السلاح، ناهيك بالحروب الأهلية الدائرة التي تكاد تقضي على ما تبقى من ثروات، هذه التحولات ستكون ذات أثر كبير على النظم الاقتصادية، وستنهي ما يعرف بالأنظمة الريعية، لعدم القدرة على تلبية المتطلبات بعدما استنزفت الثروات. يتجلى ذلك تباعا في أكثر من قطر عربي، وخصوصا في بلدان الخليج، حيث تتراجع الخدمات المجانية، وتتحول الأنظمة الاقتصادية نحو فرض الثمن على الخدمات التي يريدها المواطن، ناهيك بالسياسة الضريبية التي بدأت هذه الدول اعتمادها. هذه تحولات ستكون لها آثار اجتماعية وسياسية، على مجتمعات اعتاد أبناؤها على خدمات مجانية، وهو أمر سيخلخل على المدى البعيد العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الطبقات الحاكمة وجمهورها.

يبقى السؤال المؤرّق: هل يمكن حقاً وقف هدر الثروات العربية ومكافحة الفساد في العالم العربي؟ ليس السؤال تقنيا، بل هو مشروط بجملة عناصر ليس أقلها أن وقف الهدر ومحاربة الفساد مرتبط بمدى وجود أنظمة ديمقراطية وسلطة منبثقة من الإرادة الشعبية، بما يعني قيام دولة القانون والمؤسسات واستقلال القضاء. كما أن هذا الأمر يرتبط ارتباطاً وثيقا بسياسات اقتصادية واجتماعية تؤمّن تحسين مستوى المعيشة للمواطن وتسعى إلى تحقيق الرفاهية للشعوب العربية، كما يتطلب الحفاظ على الثروات ومكافحة الفساد توفّر القوى الاجتماعية والسياسية التي يمكن لها أن تقود معركة الرقابة والمحاسبة. يطرح في هذا المجال مدى توافر مؤسسات للمجتمع المدني يمكن لها أن تلعب دوراً رقابياً، هذه المؤسسات للمجتمع المدني ضعيفة وغير فاعلة في الوقت الراهن، ومعظمها يقع تحت هيمنة مؤسسات الدولة أو الطوائف والجهات الفئوية السائدة.

يبقى أخيرا القول، إن الحفاظ على الثروات العربية وتوظيفها في خدمة التنمية الشاملة في الوطن العربي تبدو وثيقة الصلة بقيام استنهاض عام ومراجعة لكل السياسات السابقة في كل قطر، وهو أمر تحاول بعض المجتمعات أن تدخله، ولكن بصعوبة بالنظر إلى تكلّس القوى المهيمنة التي تمارس إعاقة فعلية، من خلال تكالبها في الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها. إن النجاح في هذا المجال يشكّل شرطاً ضرورياً لإعادة استنهاض المجتمعات العربية ووضعها على سكّة التقدم والتطور بما يواكب التحولات التي يشهدها العالم، وبما يسمح في قيام أنظمة على قاعدة الديمقراطية وحقوق الإنسان. قد يبدو هذا المطلب بعيدا عن الواقع راهناً، لكنه سيظل مطلباً أساسياً للمنطقة العربية وللقوى الطامحة إلى التغيير والتقدم فيها.