اعداد الاستاذ: كمال حمدان
قرأت بكثير من التمعن والانتباه ورقة الباحثين إبراهيم شريف السيد ورضي الموسوي، ورصدهما الدقيق لتطور اللامساواة في الدخل والثروة وغياب العدالة الاجتماعية في العالم والوطن العربي. وقد وجدت ما يدعوني – عبر هذه الملاحظات المختصرة – أن أدعّم أو أستكمل بعض ما ورد في ورقتهما القيّمة:
- إن حالة الرفاه التي سادت عموما خلال الحقبة الكينزية لم تكن مرتبطة فقط بعملية توسيع القاعدة الاجتماعية لتوزيع الدخل والثروة، كتدبير وقائي من قبل الرأسمالية العالمية في مواجهة التحديات التي تمخضّت عنها ثورة أكتوبر الاشتراكية. بل إن الجزء الأهم من هذه المراجعة تمثّل في سعي الرأسمالية المحموم آنذاك الى تبديد شبح تفاقم الأزمات الحادّة التي كانت تعصف بالنظام الرأسمالي العالمي بشكل دوري منذ أواسط القرن التاسع عشر(مرّة كل نحو 10 سنوات). وإذا كانت تلك الحقبة قد اقترنت بتنفيذ مروحة واسعة من الضمانات الاجتماعية – تجسيداً لحق المواطن في التعليم والصحة والنقل العام والسكن الشعبي والتقاعد والرعاية الاجتماعية وغيرها – فإن الهدف من هذه الضمانات كان يرمي في الأساس الى حماية مستوى من “الطلب الفعلي” (Effective Demand) لا يمكن من دونه للمؤسسات – أي لرأس المال الكبير – أن تحقّق التراكم الرأسمالي والانتظام العام في أعمالها.
- إن العالم الرأسمالي قد شهد منذ أواسط السبعينيات إنبعاث مدارس وتيّارات نظرية مختلفة إنكبّت على إعادة النظر في أهم معادلات هذا العالم، وعنينا بها المعادلة التي قامت بين الدولة والسوق خلال الحقبة الكينيزية: من المدرسة التاتشيرية في بريطانيا إلى المدرسة الريغانية في الولايات المتحدة إلى مدرسة “اقتصاد جانب العرض” (Supply Side Economy)، إلى مدرسة “اقتصاد السوق الرأسمالي” (ألمانيا) والعديد من المدارس الأخرى، التي كانت تدعو كلها – وإن بصيغ مختلفة – إلى تعزيز حرية الأسواق وإعادة الهيكلة والتحرير الاقتصادي لمبادلات السلع والخدمات… ولم يحل توطّد دور هذه المدارس في الحياة التطبيقية، دون تفجّر ما يزيد عن مائة أزمة اقتصادية موضعية أو عامة منذ أواسط السبعينيات، بحسب ما يؤكده الباحث الاقتصادي المرموق Stiglitz Joseph الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد. وقد خلقت هذه الأزمات المتكرّرة البيئة المناسبة للهجوم على مكاسب العمال والطبقة الوسطى والفئات الفقيرة، ولتحجيم دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي واطلاق العنان أمام حرية رأس المال والوصفات النيوليبرالية. وجرى في إطار هذا الهجوم تقليص الوزن النسبي للأجور في الناتج المحلي القائم مقابل ارتفاع وزن الأرباح الرأسمالية والريوع وازدياد معدلات الاستغلال الاجتماعي والطبقي. وبدا واضحاً أن “التسوية” الطبقية التاريخية، التي صيغت في الغرب غداة الحرب العالمية الثانية عبر إنشاء وتطوير صيغة “الدولة–الراعية“، باتت تتجه نحو التلاشي والاضمحلال. وانسحبت هذه الاتجاهات أيضاً على معظم البلدان الناشئة بشكل عام، وإن وسط سمات وتطورات متباينة: تدمير بنى الإنتاج المحلي وفرص العمل المنتج في العديد من بلدان العالم الثالث، وتراجع الحيّز الفعلي لممارسة السيادة الوطنية على القرارات والموارد المحلية لصالح “الراعي” الدولي، وتعاظم وتعقّد آليات التبعية في زمن العولمة بأشكالها المختلفة، مع ارتداء بعض هذه الآليات سمات نجحت دول مثل الصين والهند والبرازيل في الاستفادة الجزئية من بعض جوانبها الإيجابية.
- إذا كانت غالبية البلدان المتقدمة قد شهدت بعد أواسط الثمانينات، تحسنا ملموساً ومعلناً في مستوى ما يسمى الرفاه الاجتماعي – بحسب ما تعكسه عشرات المؤشرات الإحصائية المتاحة في الأدبيات الدولية – فإن هذا التحسن لم يكن وليد اقتطاع الإجراء والطبقة الوسطى حصة أكبر من الناتج المحلى الحقيقي على غرار ما حصل خلال الحقبة الكينيزية التي وفّرت الجزء الأساسي من الرفاه الاجتماعي آنذاك عبر إعادة توزيع فعلية للدخل. بل إن ذلك التحسّن جاء كنتيجة لتعاظم اعتماد مئات الملايين من البشر على الاقتراض من البنوك (وبخاصة لغرض تأمين المساكن). وبدوره شكّل هذا الاقتراض السهل حلاّ للمعضلة التي كانت تواجهها هذه البنوك بسبب تراكم رؤوس أموال عائمة (Hot Money ) بكميات هائلة لديها، واضطرارها لأن تسدّد نصيب هذه الأموال من الفوائد. وهكذا تكاملت عناصر أزمة عام 2008: تضخم في الأرباح الريعية والمالية المصطنعة، وتضخم في اقتراض الأسر والحكومات، وتدهور في الوزن النسبي للأجور وفي علاقة الأجر بتطور الإنتاجية، وبالتالي انفصام فظيع بين الاقتصاد المالي والاقتصاد الحقيقي.
- بالرغم من شمولية ودقة الورقة التي قدمها الباحثان – والتي أتفق معهما على العديد من حيثياتها ومندرجاتها – فأني أسمح لنفسي بطرح عدد من التساؤلات دون ادعاء القدرة على توفير إجابات حاسمه عليها: هل يكون الارتفاع المطرد في نسب تركّز الثروة والدخل – بالشكل الموثّق والملوس الذي عرضه الباحثان في ورقتهما – ناتجاً في الأساس عمّا إقترنت به النيولبيرالية من ارتفاع إستثنائي في درجة سيطرة فقاعة “الاقتصاد المالي” -(“Finaciarization” of the Economy) – على مقوّمات الاقتصاد الحقيقي، منذ انبعاث زمن العولمة الراهن؟ وهل تكون محدّدات ازدياد تلك السيطرة (المالية) الطفيلية قد ترتّبت أساساً عن الميل التراجعي لمعدل الربح الوسطي الحقيقي في الاقتصاد الرأسمالي – الذي سبق أن توقّعه كارل ماركس قبل أكثر من قرن ونصف القرن – فكان لا بد آنذاك من إعادة تعويم ونفخ معدلات الربح الرأسمالية المصطنعة، عبر استخدام الفقاعة المالية كأداة لإخفاء اتجاه هذه المعدلات نحو الانخفاض الفعلي؟ وإذا كانت فرضية هذا الانخفاض صحيحة، فإلى أي حدّ يمكن القول أن ازدياد التركيب العضوي لرأس المال، المتزامن مع التطور المثير في التكنولوجيا وفي تقسيم العمل، هو الذي تسبّب في الضمور النسبي لحجم وبنية الفائض الفعلي لقيمة العمل الذي ينتجه الاقتصاد الرأسمالي؟
- أيّا كانت الردود على التساؤلات المطروحة، فإن تورّم الاقتصاد المالي والانتفاخ المصطنع للأرباح ذات الطابع المالي والريعي، قد أحدثا خللاً رجعيا (regressive) فظيعاً في عملية توزيع وإعادة توزيع الدخل والثروة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة. وهذا ما نجح الباحثان في رصد مؤشراته المختلفة، بالاستناد إلى معطيات إحصائية موثّقة ورسوم بيانية ذات دلالة. ويشهد على صحّة هذا الاستنتاج ما حصل من تطورات خلال العقود الثلاثة المنصرمة، على الصعد الأساسية التالية:
• تطور الأجور كنسبة من الناتج المحلي في البلدان المتقدمة، حيث مال الوزن النسبي للأجور إلى التراجع بشكل شبه متواصل،
• تطور العمل المأجور كنسبة من إجمالي القوى العاملة في هذه البلدان، حيث استمرّت هذه النسبة تسجّل مستويات قياسية لا تقلّ عن 80% أو 85% من إجمالي القوى العاملة (مع ميل تلك النسبة إلى الارتفاع في بعض الحالات).
• تطور مستوى الأجر الوسطى الفعلي قياساً على تطور إنتاجية العمل في البلدان المذكورة، حيث سجّل ارتفاع الفجوة بين هذين المتغيّرين، تأكيداً لاقتطاع رأس المال جزءاً متزايداً من فائض قيمة العمل.
• تنامي العلاقة الطردية بين تنامي معدلات البطالة عموما وازدياد الوزن النسبي للاقتصاد المالي في تلك البلدان، مما يؤكّد أن الأنساق المالية الطفيلية التي أسبغتها النيوليبرالية على بنية الاقتصاد هي بطبيعتها أنساق مدمّرة لفرص العمل.