IMG_5896

إعداد: الاستاذ جاسم محمد الجزاع

تقديم: الاستاذ جعفر الصميخ

ملاحظات حول اللامساواة في توزيع الدخل

أولاً تمهيد

يذكر في التاريخ القديم أنموبذان الحكيمقال يوماً للملك الساساني بهرام بن بهرام : “إن الملك يا مولاي لا يقوم إلا بالشريعة، ولا تقوم الشريعة إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة ،ولا تكون العمارة إلا بالعدل، فإن زال العدل افتقر الناس وانهار الملك“.

لا يختلف اثنان على أهمية العدل والعدالة في تسيير الحكومات لأمور المجتمع في أي دولة أو أمة ولا سبيل إلى الطمأنينة في العيش إلا إذا توافرت عوامل العدالة، وتم تطبيقها فعلياً على أرض الواقع في جميع جوانبها كالعدالة في توزيع الدخل والمساواة في توزيع المناصب والفرص، والعدالة في القضاء بين البشر وغيرها من أنماط وأشكال العدل في حكم الرعية وإدارة الدولة.

ولعل أبرز أنماط العدالة في إدارة شؤون الدولة والتي تمس مباشرة حياة البسطاء وعامة الشعب هي العدالة والمساواة في توزيع الدخل والثروة، وهذا ما تعاني منه الدول العربية بدرجات متفاوتة، فالمواطن العربي ما زال يئن ويشتكي من سوء توزيع الثروة والدخل وعدم عدالته فإن جلّ ما يفكر به أصحاب الأجور المتوسط والمتدنية هو توفير لقمة العيش وتوفر مسكن آمن وما يلزم لحياة كريمة، وهو ما يمثل مفهومالتنميةوالذي يقوم على توسيع حريات البشر ليعيشوا الحياة التي يرغبون بها ويتمنونها، ولا يتحقق هذا المفهوم إلا من خلال العدل والمساواة التي تضمن حريتهم السياسية وضمان حقوقهم المدنية، وفتح الأسواق ومحاربة الاحتكار، وتوفير مختلف الخدمات الصحية، والتعليمية، والسكنية كماً ونوعاً، والعمل وفق أطر الشفافية، وضمان الأمن الوقائي الذي يحارب الفقر والبطالة وغيرهما من مخاطر تهدد كيان المجتمع وأفراده، وهذا لا يتوفر بطبيعة الحال بوجود سلطة حاكمة تسيطر تماماً على مقدرات وثروات البلد وتعيد توزيع الدخل حسب الولاءات والقرب للسلطة وأصحاب القرار، وهو ما ترتب عليه خلق أقلية غنية وأكثرية فقيرة تقتات على ما تجود به أيادي الفئة الأكثر نفوذاً ويداً. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى بروز علامات هدم وانهيار لتلك الأنظمة الحاكمة.

ويذكر د. اسماعيل صبري في تقديمه لكتاب تاريخ الفكر الاقتصادي لـgrailbraith  طوال التاريخ الاقتصادي يكون معظم الناس فقراء مقابل قلة أغنياء ويحتاج ذلك إلى تفسير“. ولعل السبب الجوهري لتلك المعضلة هو عدم العدالة والمساواة في توزيع الدخل والثروة بين أفراد المجتمع الواحد، وعند النظر إلى حالة الدول العربية نجد هذا الأمر أي سوء توزيع الدخل متفشيا فيه بدرجات مختلفة ويظهر ذلك من خلال تناولنا للجزء الثاني من الدراسة والمتعلق باستعراض واقع اللامساواة في الدول العربية.

تهدف هذه الدراسة إلى استعراض أبرز الدلالات على عدم عدالة توزيع الدخل والثروة في حالة الدول العربية، والتي ترتب عليها بروز العديد من المخاطر الاجتماعية ذات الأثر السلبي على مستوى كيان المجتمع وأفراده، كظاهرة تفشّي الفقر والبطالة وانتشار العشوائيات، وضعف أطر العدالة الاجتماعية، وغيرها.

كما تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن تناولنا لهذا الموضوع من خلال المخاطر سالفة الذكر، هي في الأساس يمكن اعتبارها زوايا أو قواعد تكوينية لقضية ضعف عدالة التوزيع (الدخل والثروة) بشكل عام، وفي حالة الدول العربية، بشكل خاص.

ثانياً واقع اللامساواة في الدول العربية

1.2 ارتفاع معدلات البطالة()

لم يصاحب عملية النمو توليد فرص عمل حقيقية ومنتجة تستطيع استيعاب الأعداد المتزايدة من الشباب والداخلين الجدد لسوق العمل، خاصة في ضوء التحولات الديموجرافية الشديدة التي شهدتها الدول العربية خلال العقدين الماضيين، وظلت مشكلة البطالة، خاصة بين الشباب، المشكلة الاقتصادية والاجتماعية الأولى في البلدان العربية، بل إن حدّة هذه المشكلة قد أخذت في التفاقم خلال السنوات الأخيرة.

وقد طالت البطالة غالبية فئات المجتمعات العربية، ومما يؤكد خطورتها، أنها أصبحت مصدراً لإنتاج مشكلات اجتماعية أخرى قد تؤثر بشكل أو بآخر على البنيان الاجتماعي لتلك المجتمعات. إلى جانب ذلك، فإن البطالة تلعب دوراً أساسياً، في حرمان الإنسان من الحصول على مختلف فرص الحياة التي تيسر له إشباع حاجاته الأساسية.

كما تعاني أغلب الدول العربية من ارتفاع مقلق لمعدلات البطالة مقارنة بمناطق العالم الأخرى، فبالرغم من الانخفاض الذي شهدته نسبة البطالة بالدول العربية من 10.4% سنة 1995 إلى 10.1% سنة 2015، إلا أن هذه النسب تعتبر مرتفعة مقارنة بمتوسط معدل البطالة بالعالم الذي انخفض بدوره من 6.2% سنة 1995 إلى 5.8% سنة 2015. ويرتفع هذا المعدل إلى 13% بالدول العربية إذا ما استثنينا دول مجلس التعاون الخليجي. وتعود هذه المعدلات المرتفعة للبطالة بالدول العربية إلى ارتفاع كبير لمعدل بطالة الإناث، فبالنظر إلى الجدول رقم (1) نجد أن معدل البطالة لدى الإناث بالعالم العربي يساوي 20.4% سنة 2015، قد تجاوز ضعف معدل البطالة لدى الذكور بنفس السنة (7.8%).

جدول رقم (1)

معدل البطالة بالدول العربية

البلد

إناث

ذكور

الإجمالي

1995

2015

1995

2015

1995

2015

قطر

0.3

1.1

0.0

0.1

0.1

0.2

السعودية

15.9

21.1

4.5

3.1

5.8

5.8

الإمارات

2.3

9.1

1.7

2.9

1.8

3.7

البحرين

4.5

4.2

0.5

0.5

1.3

1.2

الكويت

0.5

2.9

0.8

3.8

0.7

3.5

ليبيا

32.7

30.0

17.8

17.3

20.9

20.6

عمان

14.4

14.3

4.7

5.2

5.8

6.3

لبنان

10.5

11.1

7.4

5.7

8.1

7.1

الأردن

27.0

22.9

12.7

10.7

14.6

12.8

تونس

19.8

19.7

12.9

13.0

14.6

14.8

الجزائر

53.2

17.3

24.2

8.9

27.9

10.5

فلسطين

20.6

30.2

24.3

24.8

23.8

25.9

مصر

26.4

25.0

6.9

8.3

11.3

12.1

سوريا

16.6

30.3

4.6

9.3

7.2

12.3

العراق

31.3

26.7

16.7

14.8

18.8

16.9

المغرب

12.9

10.0

12.6

9.5

12.7

9.6

اليمن

27.1

25.9

13.4

12.5

16.0

15.9

جزر القمر

24.3

23.7

17.9

17.7

19.6

19.6

موريتانيا

37.6

35.4

29.6

29.1

31.9

31.1

السودان

21.2

19.6

12.1

11.5

14.5

13.6

الصومال

8.5

8.6

7.0

7.1

7.4

7.5

الدول العربية

19.3

20.4

8.7

7.8

10.4

10.1

العالم

6.5

6.2

5.9

5.5

6.2

5.8

المصدر: قاعدة بيانات منظمة العمل الدولية KILM 9th edition. (تقديرات منظمة العمل الدولية).

كما أن البطالة بين فئة الشباب تفاقمت بشكل كبير، حيث أن ذلك يدل على أن أسواق العمل العربية لا تستطيع استيعاب الخريجين الجدد، الذين خضعوا لتعليم متدنٍ أفقدهم المهارات ومستوى مقبول من التنافسية التي يحتاجها القطاع الخاص.  ويوضح الجدول رقم (2) نسب البطالة بين فئة الشباب في مختلف الدول العربية، والذي يشير بدوره إلى أن معدلاتها قد تجاوزت ضعف المعدل العالمي.

جدول رقم (2)

معدلات بطالة الشباب بالدول العربية حسب النوع الاجتماعي

البلد

إناث

ذكور

الإجمالي

1995

2015

1995

2015

1995

2015

قطر

1.2

4.2

0.1

0.4

0.3

0.8

السعودية

51.3

55.6

24.9

22.7

28.8

31.0

الإمارات

5.6

18.3

6.3

9.1

6.2

11.1

البحرين

12.0

12.8

2.5

2.7

5.1

5.4

الكويت

2.4

14.7

4.9

19.0

4.1

17.3

ليبيا

63.2

68.9

38.1

41.7

44.5

50.0

عمان

27.1

30.4

14.1

15.8

17.3

19.3

لبنان

20.9

24.6

20.5

20.2

20.6

21.6

الأردن

53.1

56.7

27.2

28.1

30.8

33.4

تونس

30.4

35.8

29.7

33.9

29.9

34.5

الجزائر

70.9

45.9

42.6

24.8

47.7

28.6

فلسطين

43.0

54.2

33.9

37.3

34.8

39.8

مصر

56.9

59.0

21.9

27.2

32.1

35.5

سوريا

26.7

64.8

9.1

22.9

13.6

28.5

العراق

64.9

62.2

31.6

30.7

35.8

35.1

المغرب

16.5

18.2

19.5

19.7

18.6

19.3

اليمن

40.4

41.3

26.0

25.6

29.3

30.1

جزر القمر

38.2

39.4

35.8

36.9

36.5

37.7

موريتانيا

60.9

61.7

39.5

39.7

46.7

47.3

السودان

31.0

32.4

19.0

18.7

23.1

22.5

الصومال

13.1

13.1

11.1

11.1

11.8

11.7

الدول العربية

37.2

44.1

21.8

24.2

24.8

28.4

العالم

12.2

13.9

11.9

12.5

12.0

13.1

المصدر: قاعدة بيانات منظمة العمل الدولية KILM 9th edition. (تقديرات منظمة العمل الدولية).

3.2 الفقر والعدالة الاجتماعية

وهي القضايا الحاسمة بالنسبة لعملية التنمية بشكل عام، والدول العربية على وجه الخصوص، فلا شك أن الفشل في مواجهة مختلف القضايا التي تعرقل التنمية خلال السنوات الماضية كان واضحاً،  فقد بيّنت دراسة للبنك الدولي أن الفقر المطلق في منطقة الشرق الأوسط قد ارتفع بحوالي (%17) منذ تطبيق سياسات توافق واشنطن()، ويوضح الجدول رقم (3) أوضاع الفقر في بعض الدول العربية على النحو التالي:

جدول رقم (3)

ملاحظات حول أوضاع الفقر في بعض الدول العربية

م

البلد

ملاحظات حول نسب البطالة

1

تونس

بحسب البيانات المنشورة والتي تشير إلى أن نسبة الفقر في تونس قد وصلت إلى 3.8%، إلا أن هناك العديد من الكتابات التي ظهرت بعد الثورة تشكك في دقة هذه المؤشرات حيث قدرت نسبة الفقر في بعض محافظات الجنوب بـ 22%، ووصلت النسبة في بعض محافظات وسط تونس إلى 30%.

2

مصر

وصلت النسبة في عام 2008 إلى 22% وهو ما يعني أن هناك 17 مليون فقير في عام 2008.

3

اليمن

قدّرت نسبة الفقراء في اليمن بحسب خطّي الفقر الدوليين (1,25  و 2 ودولار مكافئ للفرد يومياً) إلى 46%.

المصدر: قاعدة بيانات البنك الدولي.

وكما هو معلوم، فإن مفهومالعدالة الاجتماعيةالتي تعالت الأصوات المنادية بتحقيقها خلال الفترة الأخيرة، هو أوسع بكثير من مجردعدالة توزيع الدخل، وإنما يتجاوز هذا المفهوم الضيق ليشمل أيضاً عدالة توزيع الفرص والتمكين وعدم الاستبعاد بمعناه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.  فرغم الزيادة الملحوظة في مخصصات الإنفاق الاجتماعي في معظم الدول العربية، إلا أن هذا الإنفاق كان يستخدم عادة كأداة أساسية للاستقرار الاجتماعي ولسيطرة الأنظمة الحاكمة على المجتمعات العربية.  وقد تكون حالة تونس معبّرة في هذا المجال.  فالحزب الحاكم هناك كان يعتمد بنفسه قائمة الأسر المستفيدة من الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة، وكانت النتيجة الطبيعية هي استبعاد المعارضين من الاستفادة من هذه الخدمات، في حين يمنح المؤيدون ثمناً لسكوتهم على الأوضاع السياسية، وفي ظل ارتفاع معدلات البطالة، أصبحت العلاقات الشخصية والمحسوبية هي الوسيلة الوحيدة لإيجاد فرصة عمل أو الحصول على منافع بعينها، وذلك تحت سيطرة الحزب الحاكم، وهو ما أدى إلى شيوع حالة الإحباط في المجتمع خاصة بين الشباب.  أضف إلى ذلك الشواهد المؤكدة على تدني نوعية الخدمات التعليمية والصحية العامة التي تقدّم مجاناً للفقراء، مقارنة بنظيرتها التي تقدّم بأسعار مرتفعة في مؤسسات التعليم والرعاية الصحية الخاصة، وهو ما أدى إلى انتشار ظاهرةتوريثأوإعادة إنتاجالفقر في الدول العربية، وأضعف كثيراً من تأثير الاستثمار في رأس المال البشري كأداة أساسية لإحداث الحراك الاجتماعي في تلك الدول.

4.2 العشوائيات

يعتبر سوء ظروف السكن من أهم العوامل التي تؤدي إلى المشكلات الاجتماعية نتيجة ضعف الجهود الهادفة إلى توفير وتهيئة الظروف السكنية المناسبة، وارتفاع معدلات الازدحام في الحجرة الواحدة (خاصة الأطفال والشباب)، وتأخذ تلك الظاهرة أبعاداً درامية في المناطق العشوائية في مختلف الدول العربية.

لقد أدى النمو الحضري المتسارع الذي شهدته معظم الدول النامية، وخاصة في الدول العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين إلى مشكلات اقتصادية واجتماعية وديموغرافية وأمنية وغيرها، ومن إفرازات ذلك النمو الحضري المتسارع ظهور العشوائيات حول أطراف المدن.

هذا، وقد بدأت ظاهرة الإسكان غير المشروع كرد فعل لعوامل متعددة، منها الاقتصادية والديموغرافية والظروف الطبيعية، ما دفع العديد من سكان المناطق الريفية وغيرها، للنزوح نحو المدن والعواصم للإقامة على أطرافها، دون التقيد بقوانين ملكية الأراضي وبنظم ولوائح التخطيط العمراني، وعادة ما تشيد المساكن العشوائية من الصفيح أو الزنك أو الخشب أو الكرتون على شكل أكواخ متفرقة، وذات أزقة ضيقة يصعب تحرك المركبات داخلها. وغالباً ما تفتقر مناطق السكن العشوائي للخدمات الضرورية ().

ووفقاً لآخر بيانات متاحة نجد أن %70 من تلك العشوائيات قد شيدت بطريقة فردية، و %22 شيدت بطريقة جماعية. يضاف إلى ذلك أن %70 من المناطق العشوائية مستأجرة، في مقابل أن نسبة %30 من هذه المساكن مملوكة.

ففيسورياتتناثر المناطق العشوائية في أغلب المحافظات تقريباً (قبل مرحلة الصراع الحالية)، ويصل عدد سكان العشوائيات إلى ما يزيد عن 2 مليون نسمة، ويصل نسبة سكان العشوائيات إلى نحو %37 من إجمالي سكان العاصمة. كما برز انتشار المناطق العشوائية فيالمغرب، حيث أن %50 من سكان المناطق الحضرية يقيمون في أحياء عشوائية. أما بالنسبةللجزائرفتؤكد الإحصائيات بأن نحو %6 من سكان العاصمة الجزائرية يعيشون في مناطق عشوائية.

وتبرز مشكلة العشوائيات بشكل واضح فيمصرحيث تشكل العشوائيات أبرز المشكلات والمخاطر الاجتماعية التي تهدد أوضاع الأسر المصرية، وتشير الإحصائيات في هذا الصدد إلى أن %60 من العشوائيات تقع في أطراف المدن المصرية، وأن %30 منها توجد خارج النطاق العمراني، إلى جانب %8 توجد في وسط المدن. ويصل عدد المناطق العشوائية في المجتمع المصري إلى نحو 1034 منطقة عشوائية.

ويتضح مما سبق، أن معظم العشوائيات في الدول العربية تفتقر لمختلف الخدمات الأساسية والضرورية للعيش الكريم بحده الأدنى. كما تشكل المساكن العشوائية في الدول العربية معوقاً للتنمية، وبؤرة للمشاكلات الاجتماعية والصحية، والأمنية. كانتشار الجريمة، والاتجار بالممنوعات، وانتفاء الخصوصية، والبلطجة، وغيرها من المشكلات التي تؤثر بشكل عام على مسألة الأمن الاجتماعي.

5.2 التحول الديموغرافي لا يواكبه مزيد من العدالة

شهدت الدول العربية تحولاً ديموغرافياً غير مسبوق في المنطقة خلال العقود الأخيرة كان له أيضاً دور بارز في انخفاض مستوى العدالة. فقد شهدت العديد من الدول العربية ما يعرف بظاهرةالانفجار الشبابي، وهو ما يعني ارتفاع نسبة الشباب من إجمالي السكان لأعلى مستوياتها، حيث بلغت نسبة من هم أقل من 30 سنة حوالي 75% من إجمالي السكان في العديد من الدول، وانخفض متوسط عمر السكان إلى أدنى مستوياته تقريباً خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث بلغ هذا المتوسط حوالي 18.1 سنة في اليمن و21.9 سنة في سوريا و24.3 سنة في مصر و24.5 سنة في ليبيا، في حين بلغ هذا المتوسط حوالي 30 سنة في تونس.  وقد تواكب هذا التحول الديموغرافي مع تحسن ملموس في مستوى التعليم في المنطقة العربية بشكل عام، وبصرف النظر عن جودة هذا التعليم. فمن ضمن أفضل 20 دولة على مستوى العالم من حيث الإنجاز في مجال زيادة سنوات الدراسة خلال الفترة 1980-2010، كان هناك 8 دول عربية منها تونس ومصر وليبيا

إلا أنه على الجانب الآخر لم تستطع فرص العمل التي تم توليدها خلال السنوات الأخيرة مواكبة هذه التغيّرات الهيكلية في التركيبة العمرية والخصائص التعليمية للسكان، كما أن تلك الفرص لم يتم توزيعها بعدالة بين الجميع، وهو ما أدى إلى انتشار البطالة بين الشباب وانخفاض العائد الاقتصادي على التعليم بالنسبة لهم، ومن ثم انخفاض تكلفة الفرصة البديلة لمشاركتهم في الحركات والاحتجاجات السياسية.  ففي استطلاع رأي أجراهالمعهد الجمهوري الدوليفي مصر في إبريل 2011، بعد حوالي شهرين فقط من تنحّي الرئيس المصري الأسبقمحمد حسني مبارك، تبيّن أن 64% ممن شاركوا في مظاهرات الإطاحة بالنظام كانوا مدفوعين أساساً بانخفاض مستوى المعيشة وعدم توافر فرص العمل، مقابل 19% فقط أشاروا إلى أن الدافع الرئيسي كان غياب الديمقراطية والإصلاح السياسي. بل إن نحو 41% ممن شاركوا في المظاهرات كان لديهم مشاكل حقيقية في توفير الغذاء لهم ولأسرهم وشراء الحاجات الأساسية اللازمة للبقاء على قيد الحياة. وقد أوضحت دراسة هامة وحديثة أنه كانت هناك علاقة سببية واضحة بين الارتفاع الآني لمتوسط سنوات الدراسة ومعدل البطالة في بلد ما خلال الفترة (1990-2009) وبين تزايد احتمال حدوث تحوّل سياسي في هذا البلد، سواءً تم هذا التحوّل بصورة ديمقراطية أو غير ديمقراطية، وبناءً على النتائج السابقة، يمكن القول إنه على نقيض تجربة دول أوروبا الغربية حيث الصراعات الطبقية هي التي دفعت التغيير السياسي في تلك البلاد، فإن منطقة الشرق الأوسط شهدت صراعاً حقيقياً بين الأجيال من أجلالاندماجبإيجابية في الحياة الاقتصادية؛ فالمشكلة في الدول العربية بشكل عام ودول الربيع العربي بشكل خاص لم تكمن فقط في ندرة الفرص الاقتصادية المتاحة، بل في أن هذه الفرص المحدودة كان يتم توزيعها على أساس العلاقات وليس الكفاءة، وهو ما أدى إلى انتفاء العدالة في الجانب الاقتصادي بشكل كبير ين الشباب الذين لم يروا بصيص أمل في الحراك الاقتصادي والاجتماعي.

مما سبق يمكن للباحث القول، إن العوامل السابقة مجتمعة بما فيها الفساد السياسي وفشل النموذج التنموي الذي يعتمد على سياسات لتوافق واشنطن، علاوة على التحولات الديموغرافية وتحسن الخصائص التعليمية للسكان وندرة الفرص الاقتصادية وعدم عدالة توزيعها، قد أدت جميعها إلى عدم تحقيق نمو اقتصادي مستدام في الدول العربية بشكل عام، وعدم إحداث تحوّل هيكلي حقيقي يعزز من مساهمة الأنشطة الإنتاجية وخاصةً الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي، يستطيع تخفيض معدلات البطالة، خاصةً بين الشباب والمتعلمين، وكانت النتيجة المنطقية هي تدهور مؤشرات الفقر وعدالة توزيع الدخل، خاصةً في المناطق وبين الفئات التي لا تربطها علاقات ومصالح قوية مع النخبة الحاكمة، وهو ما عزز من الشعور بعدم الرضا بين الشعوب العربية.

ثالثاً ملاحظات ختامية

بناءً على ما سبق، يمكن القول بأننا أمام دروس عديدة يجب أن نتعلمها من مسألةضعف مستوى اللامساواة في توزيع الدخل والثروة، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى ضعف أطر العدالة الاجتماعية في الدول العربية بشكل عام. كما يمكن أن تتم الاستفادة كذلك من مختلف الخبرات والتجارب التنموية على مدى العقود الماضية، والتي قد تساهم في إخراج المنطقةالعربيةمن نفق التخلف إلى رحاب التقدم والازدهار الذي نتمناه. هذا، ويمكن للباحث طرح بعض التوصيات لتحسين مستوى عدالة التوزيع بشكل عام، على النحو التالي:

القضاء على الفساد بكافة أشكاله شرط ضروري ولازم لتحقيق النمو والتنمية؛ فبدون توافر هذا الشرط، ستظل محاولات الإصلاح الاقتصادي قاصرة عن تحقيق أي إنجاز إنمائي أو تنموي حقيقي تستفيد منه وترضى عنه الشعوب. فكما أوضحنا سابقاً، فإن جزءاً كبيراً من الفشل الاقتصادي والاجتماعي الذي شهدته دول الربيع العربي خلال السنوات الماضية يمكن إرجاعه إلى عوامل سياسية. فانتشار الفساد والقهر والسلطوية قد حدت كثيراً من قدرة الاقتصاديات العربية على تحقيق تنمية متوازنة وخلق فرص عمل حقيقية. فالإصلاحات الاقتصادية قد استخدمت أساساً لإعادة توزيع المزايا على ذوي السلطة والنفوذ والمحسوبية ولحماية مصالحهم الخاصة ولإحكام سيطرة الدولة على القطاع الخاص. فرغم السياسات الاقتصادية التي تميزت بطبيعتها السوقية مثل تحرير التجارة والخصخصة، فإن الأنظمة الحاكمة قد استمرت في فرض سيطرتها على القطاع الخاص واستخدام وسائل متعددة للحد من استقلالية هذا القطاع، وقد أدت محدودية المنافسة السوقية إلى إعادة إنتاج مظاهر عدم الكفاءة في الاقتصاد وحدت من ظهور قطاع خاص حقيقي منافس ومستقل عن الدولة.

النمو الاقتصادي المستدام سيظل حلماً بعيد المنال ما لم تتوافر آليات فعّالة لضمان عدالة توزيع ثمار هذا النمو؛ فالعدالة الاجتماعية لا تعني مجرد عدالة توزيع الدخل، بل الأهم عدالة توزيع الفرص. فتمكين الجميعدون أي شكل من أشكال التمييزمن الحصول على فرصة متكافئة، كماً وكيفاً، للتعليم والرعاية الصحية وفرص العمل وغيرها، هو الضامن الوحيد لتحقيق عدالة توزيع الدخل، ومن ثم النمو الاقتصادي المستدام، والتنمية البشرية بشكل عام، وهذا يستلزم بالضرورة مستويات مرتفعة من الاستثمارات العامة في رأس المال البشري والبنية الأساسية، يتعيّن على السياسات الاقتصادية الكلية أن تضمن توفيرها، خاصةً بالنسبة للفئات والمناطق الأكثر حرماناً.

الإدراك بأن نمط النمو الاقتصادي، وليس النمو في حد ذاته، هو الأمر الحاسم في عملية التنمية؛إذ أن معدلاً معتدلاً للنمو وقابلاً للاستمرار يترتب عليه خلق للوظائف، وإقلال الفقر خير من معدل مرتفع يرتكز على زيادة عدم المساواة وتحفه مخاطر التذبذب والأزمات“. فالنمو الاقتصادي الذي يصحبهتحوّل هيكليلصالح القطاعات الأعلى إنتاجية، وخاصةً الصناعة التحويلية، هو النمو الذي يبدو مرغوباً من منظور التنمية والعدالة الاجتماعية.

أياً كان النظام الاقتصادي الذي ستتبعه دول الربيع العربي خلال المرحلة القادمة، فإنه سيظل هناك دور رئيسي للدولة في الحياة الاقتصادية؛ وستظل هناك حاجة حقيقية لتبني سياسات صناعية تساعد على تحقيق التحول الهيكلي المنشود، الذي يعزز من إمكانية استدامة النمو الاقتصادي، ويتدارك عجز السياسات الاقتصادية في الفترة السابقة عن استيعاب التحولات الديموغرافية التي شهدتها الدول العربية، وتستطيع توجيه طاقات الشباب (الذين أصبحوا يمثلون الغالبية العظمى من سكان المنطقة) لأنشطة إنتاجية وتنموية حقيقية، بما يؤدي إلى تحويل تلك الطاقات إلىنعمةوليسنقمةعلى جهود التنمية في العالم العربي.

قد لا تكون سياسات التثبيت والتقشف، التي تركّز على هدف الاستقرار الاقتصادي والتحكم في التضخم، هي السياسات المثلى في مجتمعات ما بعدالربيع العربي؛ فقد يكون من الأهم في الفترة القادمة التركيز على أهداف النمو الاقتصادي وتحسين مستويات المعيشة وخلق فرص عمل منتجة وحقيقية.  وفي كل الأحوال، فإنه إذا اختارت الدول استمرار اتباع سياسات استهداف التضخم، فإن عليها ألا تركّز فقط على المفهوم الضيق للتضخم، أو ما يعرف بمعدل التضخم الأساسي، بل يجب عليها أن تستخدم المفهوم الواسع للتضخم الذي يأخذ في الاعتبار الزيادات المتتالية في أسعار الغذاء والطاقة، والتي هي أكثر أهمية في الدول العربية بشكل عام ولمستويات معيشة المجموعات الأقل دخلاً على وجه الخصوص.