IMG_8155

ورقة مقدمة في منتدى عبد الرحمن النعيمي الفكري السادس. بيروت، كانون الأول 2018

محمد علي مقلد   14-9-2018

قيل على لسان ماركس، إن الحضارات تقاس بقياس دور المرأة فيها. وعلى لسان نابليون، المرأة التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسارها. وقيل المرأة نصف المجتمع. وقالوا إن الأديان كرّمت المرأة فيضربون مثلا حظر الإسلام وأد البنات. وعدّت نساء رائدات في العالمين القديم والحديث، السيدة مريم، الخنساء، زنوبيا، شجرة الدر، جاندارك، كاترين، وغيرهن كثيرات.غير أن هذه الأسماء لم تكن سوى حالات فردية موزعة بين الأزمنة والأمكنة.

من ناحية أخرى، شدد قاسم أمين على دور الاستبداد قائلاًإن الاستبداد إذا غلب على أمة فإنّ أثره في الأنفس لا يقتصر على الحاكم الأعلى المستبد، وإنما يتصل منه بمن حوله، وينفث روحه في كلِّ قويٍّ بالنسبة لكلِّ ضعيف متى مكّنته القوة من التحكم. نستند إلى قول ماركس وفرضية قاسم أمين لنؤكد أن المساواة بين الجنسين لم تطرح، كقضية، على جدول عمل التاريخ إلا في زمن الحضارة الرأسمالية، وسنحاول أن نفصل في أمرين، الأول هو أن الرأسمالية التي تعتبر قضية المرأة أحد أنجازاتها، هي ذاتها، أي الرأسمالية، ترعى صيغاً من الاستبداد القديم وتبتكر أخرى جديدة فتعرقل إكمال إنجازاتها، ولاسيما في البلدان الطرفية بحسب تعبير سمير أمين، ومنها بلدان العالمين العربي والإسلامي.

ارتبط تاريخ هذه القضية بثلاثة عوامل، سياسي واجتماعي وثقافي. السياسي، وهو الحاسم، تجسّده الأقانيم الثلاثة، الحرية والمساواة والديمقراطية، وهي لم تطرح، في التاريخ، دفعة واحدة بل على التوالي، واحدة بعد الأخرى. طرحت الأولى، أي الحرية، كقضية فلسفية في القرن السابع عشر، ولم تكتمل في صورتها الناضجة إلا بعد ثلاثة قرون، أي في القرن العشرين. صيغتها السياسية الأولى نصت عليها شرعة حقوق الإنسان، والنهائية تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

الحرية بمعناها الفلسفي لم تعرف إلا مع الكوجيتو الديكارتي، أي مع حرية العقل، أو حرية الفكر والتفكير “أنا أفكر إذن أنا موجود”، وهي تعني حرية الإنسان الفرد، وهي ذات دلالة مختلفة تماماً عن دلالة المصطلح السياسي وإن كانت تشكل أساسه الفلسفي. قبل الكوجيتو كانت كلمة الحرية قد وردت كنقيض للعبودية. هكذا اقترن، في القرآن، ذكر كلمة حر عدة مرات بكلمة عبد. مع الكوجيتو انطوى مصطلح الحرية على دلالة ثقافية جديدة حين صار العقل بديلاً عن الأسطورة والعلم الوضعي بديلاً عن العلم الغيبي. أي حين استبدل ديكارت الإشكالية القديمة التي كانت مشغولة بالبحث عن أدلة وأدلة مضادة على وجود الله، بأخرى جديدة حفزت العقل البشري على البحث عن أسرار الطبيعة والكون وعن القوانين التي تسيرهما، ولا يعود مهماً، عند اكتشافها، أن يكون مصدرها الله أم الطبيعة، بل ولا ضير عندذاك من أن يعتقد المؤمن بأن الله هو خالق القوانين أو يعتقد العقل بأن القوانين جزء من تكوين الطبيعة. منذ أن بدأ العقل البشري يكتشف هذه القوانين، أصبح الإنسان أكثر قدرة على التحكم بالطبيعة والسيطرة عليها وأكثر قدرة على تدجينها.

أما المساواة فقد طرحت على جدول عمل التاريخ، بعد أكثر من قرن على الكوجيتو، أي في الثورة الفرنسية على وجه التحديد. المعنى الذي انطوى عليه هذا المصطلح هو المساواة أمام القانون، لا ذاك الذي دارت حوله المقارنات العقيمة بين الاشتراكية والرأسمالية على وجه العموم، وخصوصاً بين الرجل والمرأة، عقلاً وجسداً ودوراً في العائلة والمجتمع.

المساواة أمام القانون تعني المساواة في المواطنية وفي الحقوق وفي الواجبات، وتعني في نظر الرأسمالية إجازة خروج المرأة إلى ميدان العمل كالرجل، بل حاجة الاستثمار إلى خروجها مع الرجل إلى المشاركة في الانتاج، لا أن يقتصر عملها على الإنجاب والتدبير المنزلي. بدأ تحررها من سيطرة الرجل حين استقلت عنه وشاركت في عملية الإنتاج المادي في المجتمع.

الأقنوم الثالث، الديمقراطية، هو مزيج من الأقنومين السابقين، وهو بحث دائم عن تنظيم العلاقة بين القوي والضعيف لتقليص نسبة الاستبداد إلى حدودها الدنيا. كل الصيغ الأولى التي اعتمدت نظام الأكثرية والأقلية في السلطة السياسية قضت على بعض أشكال الاستبداد وعجزت أمام أخرى، ما تطلّب شحن المصطلح بمدلول جديد يحمي حق الضعيف ويحد من إفراط القوي في استخدام القوة، فشاع مبدأ حق الاختلاف والاعتراف بالآخر، وهو ما عبرت عنه وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الإنسان الفرد، التي نصت في مادتها الأولى على التالي:

“يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء”.

وفي مادتها الثانية:

“لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولاسيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسياً وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر”.

وفي المادة 16 الخاصة بعلاقة المرأة بالرجل:


“للرجل والمرأة، متى أدركا سن البلوغ، حق التزوج وتأسيس أسرة، دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين. وهما متساويان في الحقوق لدى التزوج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله.


2. لا يعقد الزواج إلا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاء كاملا لا إكراه فيه.
3. الأسرة هي الخلية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة”

إلى آخر المواد الثلاثين في الإعلان التي يتضمن بعضها أكثر من بند، وتؤكد جميعها على أن الحقوق هي حقوق الإنسان الفرد، فهي تبدأ كلها بعبارات، لكل فرد، لكل إنسان، لكل شخص، ما يعيد فكرة الحرية والحق إلى جذرها الأول الذي ينطلق من الإنسان الفرد وعقله الحر، أي إلى جذرها الفلسفي المتضمن في الكوجيتو الديكارتي.

ورد في قول آخر لماركس أن التاريخ لا يطرح على جدول عمله من القضايا إلا ما هو قادر على حلها. إذا كانت هذه الفرضية صحيحة، يمكن الاستنتاج بأن الأقانيم الثلاثة لم تطرح إلا لأن ظروف التطور الفكري والمادي في القرن السابع عشر دفعت ظاهرة الاستبداد، إلى التراجع. كما تراجع  الفكر الديني الذي كان يحميها أمام العقل العلمي الذي أثبت كفاءته وتفوقه من خلال الاكتشافات الهائلة في علوم الطبيعة (الميكروسكوب والتلسكوب نموذجاً لقدرة العلم على جعل الإنسان قادراً على رؤية الأشياء البعيدة جداً والصغيرة جداً، أي التي لم يكن قادراً على رؤيتها بالعين المجردة).

دور هذه الاكتشافات كان كبيراً جداً. فهي ساهمت في تفجير المعركة مع الاستبداد الفكري والسياسي ومع المؤسسات الدينية والسياسية الحاضنة لهما. غير أن المعركة احتاجت إلى وقت طويل وإلى انحياز السلطة السياسية في الثورة الفرنسية وسلطة الأمراء في أوروبا الشمالية إلى العقل العلمي ضد العقل الغيبي، لتبدأ رحلة طويلة من الصراع حول الديمقراطية والحرية لم تجد مستقراً نسبياً لها في الحضارة الرأسمالية إلا بعد الحرب العالمية الثانية. 

بعبارة أخرى، إن الفترة الزمنية التي احتاجها التاريخ لإثبات صحة حقائقه في الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان لا تقاس بالسنوات بل بالقرون. ثلاثة قرون، امتدت من السابع عشر إلى العشرين تمكنت الحضارة الرأسمالية خلالها من تحقيق إنجازاتها الهائلة على الصعيدين العلمي والاقتصادي، ومن تعميم هذه الانجازات على الصعيد الكوني.

بيد أن إنجازها السياسي في القضاء على الاستبداد الذي كان سائداً في الحضارة السابقة، أي في حضارة السلالات الإقطاعية، الممالك والأمبراطوريات والقيصريات والسلطنات والإمارات، لم يتعمم بعد على الكرة الأرضية، إذ لا تزال بلدان كثيرة تنوء تحت سيطرة سلطات سياسية استبدادية، حزبية وحكومية، متعددة الأشكال. بل هو لم يكتمل بعد حتى في عرين الحضارة الرأسمالية، حيث يمارس الاقتصاد الرأسمالي، بالخفاء ومن غير ضجيج وبعنف غير مرئي، استبداداً “ناعماً” يلتفّ فيه على قيم الحرية والديمقراطية والمساواة ويعطلها.

لذلك يمكن القول إن الاستبداد السياسي، وإن لم يكن مسؤولاً عن نشوء ظاهرة الذكورية، وهي قديمة في التاريخ، فهو يشكل تربة صالحة لنموها وبيئة حاضنة لاستمرار سطوتها حتى في البلدان الرأسمالية الأكثر تطوراً في العالم، فكيف في البلدان المتخلفة التي لا تزال تحافظ، في أنظمتها السياسية، على منظومة القيم التي كانت سائدة في القرون الوسطى.

منظومة القيم السياسية في الحضارة الرأسمالية احتاجت إلى حماية عن طريق القانون الوضعي. أما القيم الاجتماعية فهي لا تحتاج إلى حماية، لأنها هي، في حد ذاتها، بمثابة قوانين. وحين يتعارض القانون الوضعي مع القانون الاجتماعي تكون الأرجحية للأول في البلدان الحديثة التي أقيمت فيها دولة الحق والقانون والمؤسسات، وتكون للثاني في الدول التي لم تشهد هذه النقلة. وهكذا يستمر الصراع في عصرنا بين قوانين الدولة الحديثة التي يصونها القضاء، والقوانين الاجتماعية التي تحل محل الدولة وتحتكم إلى القضاء الشرعي التابع للمؤسسات الدينية، وتحميها تنظيمات ما دون الدولة، كالبنى القبلية والعشائرية والطائفية والميليشيوية، أو ما فوق الدولة كالعولمة الرأسمالية.

على الصعيد الثقافي يحتدم صراع من نوع آخر بين الوعي الفردي والوعي الاجتماعي. وكثيراً ما تكون الغلبة فيه للثاني، بحيث ينحاز المرء إلى العادات والتقاليد والأعراف، إذا ما تعارضت مع قناعاته الشخصية. على هذه الحلبة من الصراع تمرد أفراد كثيرون، رجالاً ونساءً، ولعبوا دوراً ريادياً من أجل تحرير المرأة من قيود التقاليد الاجتماعية، ولم تذهب هباء كتابات المفكرين ولا نضالات نساء ومؤسسات من أجل تحقيق المساواة بين المرأة والرجل من حيث الحقوق والواجبات، أي المساواة أمام القانون. غير أن البنى السياسية هي التي تلعب الدور الحاسم في تحقيق التقدم على هذا الصعيد.

ما يؤكد فرضياتنا هذه تجارب عديدة في العالم العربي نذكر منها، مبادرة الرئيس كميل شمعون في لبنان إلى سن قانون يساوي بين المرأة والرجل في الانتخابات، ومبادرة الرئيس بورقيبة إلى تعديل قوانين الأحوال الشخصية التي تميز بين الجنسين من حيث الحقوق والواجبات، ومبادرة ولي العهد السعودي بالسماح للمرأة بسوق السيارة، (المقياس هنا هو المساهمة في التقدم نحو الحداثة وحقوق الانسان، وليس المقياس الموقف من القضايا القومية والوطنية والصراع الطبقي والإمبريالية).

كما لا يخفى أن البلدان التي كانت سباقة في احتكاكها بالحضارة الرأسمالية، متل مصر ولبنان وتونس، وهي بالصدفة البلدان التي تأسست فيها دول دستورية، هي التي شهدت أدواراً متقدمة للمرأة، ذلك أن الدول الرأسمالية الغربية لعبت دوراً تقدمياً على هذا الصعيد، وهو ما أكده ماركس، وذلك ضداً على الخطاب الماركسي المبتذل، حين رأى أن البرجوازية قادرة على أن تجلب إلى حلبة الحضارة أي بلد من البلدان المتخلفة. والمقياس هنا أيضاً هو مقدار المساهمة في التقدم نحو إقرار حقوق الإنسان، وليس تمجيد الجانب المتعلق باستغلال الإنسان للإنسان في الرأسمالية.

غير أن العراقيل التي حالت دون إقرار حقوق الإنسان، بما فيها حقوق المرأة، تتعلق بطبيعة السلطة السياسية الحاكمة في البلدان غير الدستورية أو في البلدان الدستورية التي تدير دفة الحكم فيها أحزاب استبدادية تنتهك الدستور ولا تطبق القوانين. وفرضيتي في هذا المجال أن أحزابنا اليسارية والقومية والدينية في العالم العربي هي أحزاب استبدادية، لأنها غير ديمقراطية، فهي لا تكتفي بعدم الاعتراف بالآخر، بل تعمل على إلغائه بالقتل أو النفي أو السجن.

نزعة الاستبداد هي أصل العلة ولا حل خارج دولة القانون والتربية على الديمقراطية. ولذلك فإن أقصر السبل وأفضلها للانتقال إلى الحداثة هو النضال السياسي، رجالاً ونساءً، من أجل قيام الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان والكفاءة وتكافؤ الفرص والحريات الديمقراطية. مثل هذه الدولة قد تحتاج، في بلدان العالم العربي، إلى ثورة ليس الربيع العربي الذي أطلقه بوعزيزي سوى شرارته الأولى، حيث بدا من الواضح أن من يقف ضد هذه الثورات هم المدافعون عن الاستبداد.