الوسوم
فلسطين, مقاومة التطبيع, البحرين, خديجة صبار, عبدالرحمن النعيمي
دكتورة خديجة صبار
باحثة في مؤسسة محمد عابد الجابري الفكرية، المغرب
ترتكز الدراسة على أربع مباحث ومدخل. يتناول المبحث الأول تحديد المفهوم ويناقش المبحث الثاني أسسالإستراتيجية الصهيونية للتطبيع. ويتناول المبحث الثالث الدبلوماسية الروحية والمخطط الإبراهيمي، ويتطرق المبحث الرابع لهيكلة الحركة الصهيونية في المغرب 1917- 1929 فخاتمة تبرز طرق مواجهة التطبيع ومقاومته.
المدخل
لجوء بعض الدول العربية إلى تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني المحتل الذي لم يكن موجودا أصلا قبل اعتراف المجتمع الدولي به بقرار صدر بتاريخ 29/11/1947عبر إعلان صفقة القرن بتاريخ 27/1/2020، قبل إيجاد الحل العادل للقضية الفلسطينية أشكلها وعقد مسار حلها، وتجاوز الإرادة الفلسطينية: فهل يمكن فصل المسارين بعضهما عن بعض؟ هل يمكن الوصول إلى مستوى التعامل مع الكيان على أنه جزء طبيعي في الوطن العربي؟ وما مدى استعداد الطرفين النفسي والاجتماعي لبناء علاقات بينية سوية بمعنى صياغة قيم معيارية مشتركة وهيكل أمني جديد وميثاق اقتصادي، وتجاوز الاعتبارات الأيديولوجية بينهما وفق قاعدة رابح/رابح؟ ألا يرمي التطبيع إلى ترسيخ وجود الكيان وسيطرته على المنطقة وتسليم قيادتها له على حساب الدول العربية؟ وهل ستنجح الإستراتيجية الأمريكية في محو إفرازات الصراع والعداء وتدشين روابط تعاون عبر التطبيع عوض الحروب والتوترات، علما أن نجاحها يعني استحالة بل موت فكرة الوحدة العربية وإنشاء بيئة مناسبة للتغيير والتجدد الحضاري؟ ما هي مخاطر التطبيع بالنسبة للقضية الفلسطينية والدول والشعوب العربية والإسلامية؟ وهل من المعقول أن تقود دولة الكيان المغتصب الجغرافية العربية ما عدا إن فقد القادة العرب سمات العزة والشهامة والكرامة؟ و ما دور شعوب الأمة ومؤسساتها في مواجهة التطبيع والمطبعين المؤدي إلى إضعاف الانتماء العربي والإسلامي لفلسطين أرضا وشعبا ومقدسات؟ تستقصي الورقة الموضوع اعتمادا على المنهج النقدي التحليلي المبني على استنطاق واستقراء الأحداث مع الاستفادة من المنهج التاريخي كأساس لفهم وتحليل العلاقة بينها، وذلك بطرح الإشكالية في إطار جماعي وعملي (منطق الفعل) غير تجريدي(منطق القول)، قصد الوقوف على الأسباب والدوافع بمنهج عقلاني مفتوح على العديد من المداخل لاستشراف سبل المواجهة، من منظور أن التاريخ بلا سياسة أبكم والسياسة بلا تاريخ عمياء.
- تحديد المفهوم
التطبيع هو تحويل أو تصيير العلاقة بين الكيان الصهيوني الذي أنشأ دولته على الأرض العربية الفلسطينية من علاقة غير طبيعية إلى خلق روابط طبيعية تقوم على الأسس نفسها التي تقوم عليها الدول المجاورة بهدف أن تصبح الدولة الأقوى المؤهلة طبيعيا لقيادة المنطقة والتحكم في تفاعلاتها، بعد أن تم إخراج مصر من المعادلة وغزو العراق. فهو مصطلح صهيوني ظهر أول مرة في المعجم الصهيوني للإشارة إلى يهود المنفى حيث طرحت الحركة السياسية الصهيونية نفسها لتقوم بتطبيع يهود الشتات المنتمين إلى أمم متعددة وإعادتهم إلى طبيعتهم كأمة واحدة.
طرح المفهوم في سياق الصراع العربي الإسرائيلي ويعني الاعتراف بالكيان كأمر واقع وجسم طبيعي في المنطقة لا مناص من التعايش معه في منظومة علاقات طبيعية، والاعتراف بأفعاله وممارساته ومشاركته جرائمه من مصادرة الأرض وتفريخ المستوطنات والاغتيالات والإعدامات الميدانية والتطهير العرقي والمجازر واستهداف المدنيين وهدم البيوت والمستشفيات والمدارس وعدم احترام حق الطفل المرأة والحقوق المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف الأربعة مع أن الكيان وقع عليها. التطبيع يضعف طبيعة الصيرورة التاريخية ويقوي مخاطر الهيمنة الإسرائيلية على دول المنطقة وتصفية القضية الفلسطينية، جوهر الصراع وبؤرة التركيز وتحريف للتاريخ والهوية والأصول، ولا يهدف إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكاله التمييزية بل يعني التعامل معه ” كدولة يهودية” وواقع موجود وأمر مسلم به في المنطقة بغض النظر عن تاريخه مع تجاوز جرائمه التي لا تتوقف، وغض النظر عن حقيقة الصراع المبني على الاحتلال والترويج لأرض الميعاد اعتمادا على الموروث التوراتي والتلمودي الذي كان ولا يزال الرافد الأساس للفكر الصهيوني الإسرائيلي الاستيطاني التوسعي فحسب، بل يقود إلى الإقرار العربي بالحق التاريخي اليهودي وضمنيا بالرواية اليهودية (الأرض الموعودة)، وتوظف البعد الديني لخدمة المشروع السياسي للحركة الصهيونية، ولتبدو في ظرف سبعة عقود في قوتها لا فقط بنجاحها في إحكام السيطرة على كامل التراب الفلسطيني، بل أيضا في إجبار عدد من الدول العربية على تطبيع العلاقات مجانا من دون قيام دولة فلسطينية. ويمتد مفعوله إلى تقييد قدرات العالم العربي العسكرية وتغيير معتقداته السياسية وإعادة صياغة شبكات علاقاته والإقرار بوجوده وأحقيته في الأرض والهوية اليهودية أي تغيير المواقف تجاهه. التطبيع إقرار عربي ضمني بالكيان” دولة يهودية”،”فقانون القومية اليهودية الذي اعتبره “نتنياهو” من أهم منجزاته التشريعية يلغي فكرة المواطنة ويؤسس لعنصرية دينية ويهودية الدولة الذي أقره الكنيست قانون عنصري. هدف الكيان الاستراتيجي فك العزلة الذي يؤهله للتحول إلى قوة إقليمية مهيمنة على المنطقة العربية الشيء الذي يعني إلحاق الهزيمة بوطن عربي فوق رقعة جغرافية كبيرة، ويملك الموارد البشرية والطبيعية وعوامل النصر لو كان العرب والمسلمون متحدين أو في طريقهم إلى الوحدة كما كانت الصين منذ قرون، والتي نراها اليوم تناهض أمريكا. والمفهوم متداول في العلاقات الدولية والسرديات الكولونيالية (وعرف المجتمع الأكاديمي مجموعة من المفاهيم: الإبادة، الاستيطان، التهويد، التطهير العرقي، الأباتهايد، السلام، التسوية(…) ظلت إسرائيل طبقا للوقائع التاريخية مستغرقة في استكمال مشروعها الصهيوني الذي هو إقامة دولة يهودية من النيل إلى الفرات “حدودها حيث يقف جنودها”، غير جاهزة لأية تسوية سياسية تضمن الحقوق الوطنية المشروعة ولو في حدها الأدنى، بل تعاملت مع جميع المبادرات العربية الراغبة فيها بوصفها مؤشرا على ضعف الموقف العربي وعلى الخلل القائم في موازين القوى لمصلحتها بوصفها الدولة الأقوى المؤهلة طبيعيا لقيادة المنطقة والتحكم في تفاعلاتها. من هنا إخراج مصر من المعادلة (دائرة وادي النيل) وغزو العراق وتقسيمه (دائرة الشام) وتتنافس على قيادتها العراق وسوريا ودمر البلدان: فحياة شعب الكيان تتوقف على تفكيك الشعوب الأخرى، فيم العرب يجدون صعوبات في أن يفكروا في ذاتهم تفكيرا صحيحا بخلق آلة فعالة لصنع القرار الجماعي على مستوى الوطن العربي والإسلامي بحكم أن”الكلام عن أزمة عربية بالمفرد غلط منطقي وخطأ سياسي، من رواسب عهد الإيديولوجيات- أصل كل ويل وبلاء- وتلاحقت الكوارث على العرب بسبب إقدام بعض الزعماء المحليين على مبادرات انفرادية تصاغ في شكل يوحي بأنها تعبر عن وهم قومي. ورغم الإخفاقات المتوالية لم يرتدع اللاحق بتجربة السابق، ولا تزال بلادنا العربية حتى يومنا هذا تؤدي ثمن سلسلة المبادرات الانفرادية (…) يخطئ الزعيم في تقديراته لا باعتباره زعيما قطريا، بل لأنه يتصرف كما لو كان زعيما قوميا ويعتقد أن ذلك هو واجبه وقدره. وظل الحلم المجهض يؤثر في الفكر وفي الممارسة بكيفية ما عند العربي وعند غيره، في شكل فراغ جاذب، ندم على فرصة ضائعة، شعور غامض بالذنب، احتقار لمن أهديت له قلادة فلم يعرف كيف يتزين بها.”
- أسس الإستراتيجية الصهيونية العالمية للتطبيع
- منع التضامن العربي
ولا يمكن فهم الفكر السائد في الإدراك الإسرائيلي ما لم نعد إلى “جابوتنسكي”، منشئ المنظمة العسكرية (إرغون) عام 1931 التي قامت بمذبحة دير ياسين، مكرسة التطهير العرقي وما ينطوي عليه من أعمال وحشية وقتل جماعي، بطريقة منهجية لاقتلاع الفلسطينيين من جذورهم وترحيلهم من البيوت التي كانت ملكا لهم قبل 1948، وزرع شتات ملفق من الغرب، محذوف منه كل أثر من آثار السكان الأصليين مكانهم، لاستخلاص الخصائص الفلسفية التي سادت وبلورت الصهيونية اليمينية ونظام قيمها الجديد المسيطر على الحياة السياسية وأسلوب التعامل. القيادات السياسية للكيان تنطلق من مفاهيم “جابوتنسكي” الزعيم الروحي الصهيوني وأحد عناصر فلسفته التي تلقفها عنه “مناحيم بيجن” ورسخها في تقاليد النخبة الحاكمة بما في ذلك النخبة العسكرية: إن منطقة الشرق الأوسط لا تمثل أي كيان متجانس وإسرائيل لا تعمل سوى أن تعمق هذه الحقيقة. قيادات الكيان العسكرية المسؤولة يستغرقها الخوف من تضامن عربي يرتفع إلى مستوى التكتل الإداري، فالتفوق العسكري للكيان واقع لكن ماذا لو تجمعت الدول العربية وفقط دول المواجهة.
برزت أولى عناصر مخطط التفتيت باتفاقيات السلام العربي الإسرائيلي لمنع الإرادة العربية من التماسك والتكامل واستئصال إرادة التحدي العربية لبقائها، بمعاهدة كامب ديفيد (1979) وسحب سوريا من لبنان ومأساة حرب الخليج (صراع بغداد وطهران)، وتمثل نقطة تحول في مسار القضية الفلسطينية والبوابة التي عبرها ستتسلل كافة أشكال الاستسلام السياسي لأنها أجبرت العرب بكيفية غير مباشرة للاعتراف بالكيان الصهيوني. أخرجت مصر من المعادلة وكسر الإجماع العربي حول مقاطعة إسرائيل وجعلت كل الأوراق بيد أمريكا(عبارة السادات) وكسر قرار اتخذته جامعة الدول العربية عام 1950، أي قبل لاءات الخرطوم الثلاث ولم يستوجب أية خطوة مماثلة من الطرف اليهودي، وفتحت الباب واسعا لأشكال التطبيع الأخرى؛ أوسلو وكسر الحاجز النفسي (1993) بعد حرب الخليج الثانية 1991 ومؤتمر مدريد للسلام، فاتفاقية وادي عربة (1994) بعد عشرة أشهر منه تمت اتفاقية أوسلو ووادي عربة في سياق حروب بين أطرافها وجاءت لتسوية نتائج تلك الحروب؛ وشعوبها إلى اليوم غير متقبلة لوجود الكيان على أراضيها. جاء في المادة السابعة فقرة “ج” “عدم حصر التعاون بين الدولتين فحسب وإنما يشمل تعاونا في النطاقات الإقليمية الأوسع،” بمعنى أن المملكة تشكل مدخلا للكيان نحو دول العالم العربي والإسلامي وضمان الإطار الأوسع للتعاون، وهو هدف الكيان البعيد المدى، وطبقا للحدود التي يدعون أن الرب حددها لهم؟ وهم المستوطنون المتطرفون الين يضعون هذه المسألة في جدول أعمالهم بشكل متكرر منذ النكبة 1948. يليها التطبيع عبر الاقتصاد لتقنين العلاقات بشكل تجاري في سياق مؤتمر القمة الاقتصادي للشرق الأوسط وإفريقيا المنعقد في الدار البيضاء بتاريخ 30/ 10/ 1994، وعلى مستوى ممثليات اقتصادية وتجارية المغرب وتونس(1996-2000)، تتوقف عند تصعيد العنف كما فعل المغرب عندما أغلق مكتب الاتصال في الانتفاضة الثانية عام (2000) التي تمثل استفتاء يوميا عن إرادة الشعب الفلسطيني في الداخل وتضحد كل الآلة الدعائية الصهيونية، ومع موريتانيا والمغرب وتونس وقطر ودول أخرى أقامت علاقات دبلوماسية مع الكيان وقطعتها فيما بعد، بينما صمدت دول أخرى: الجزائر، سورية، العراق، ليبيا، لبنان، اليمن السعيد. هذا المسار شكل تحولا جوهريا للقضية، أفضى إلى “صفقة القرن”، نتاج المخططات السالفة، وهدفها تفريغ الجسد العربي من عناصر القوة لتغيير خريطة المنطقة وإدماج الكيان مع المحيط العربي، حيث وقعت الإمارات العربية المتحدة (13/8/2020) ومملكة البحرين( 11/9/2020) اتفاقيتي التطبيع في البيت الأبيض 13/8/ 2020 بهدف دمج الكيان في المنطقة وتحييد الدول العربية عن القضية ليبقى محصورا بين الفلسطينيين والكيان. عقدت أربع اتفاقيات عربية رسمية مع الكيان برعاية الولايات المتحدة الأمريكية لأن المشروع الصهيوني لا يتحرك إلا في سياق المشروع الأمريكي للمنطقة:الإمارات البحرين تبعتهما جمهورية السودان (23/10/2020 ) فالمملكة المغربية سادس دولة بتاريخ( 10/12/ 2020) باستخدام قضية الصحراء كورقة ضغط. وتمكنت الإدارة الأمريكية من وضع بنودها موضع التنفيذ عبر الإعلان عن توقيع “اتفاقية أبراهام” 13 /8/2020، تنجح أمريكا دائما في تكريس الانقسام العربي بين من يضع ثقته في حمايتها وفيها وحدها ومن يحتفظ بما بقي من وعي قومي. ولم يتوقف الكيان الصهيوني خلال هذا المسار عن ممارسة أبشع الجرائم وسفك الدماء وبسط النفوذ بقوة السلاح وسياسة الاعتقال واقتحام المدن والقرى وفرض الحصار الجوي والبري والبحري على قطاع غزة للنيل من صمود الشعب الفلسطيني تجاه جبروت المحتل الذي يحلو له القيام بدور الضحية لكنه في الواقع أقوى قوة في المنطقة نجحت في ممارسة استراتيجية منع التضامن العربي.
- الدبلوماسية الروحية والمخطط الإبراهيمي
التطبيع أحد مظاهر “صفقة القرن.” ويتلخص في ضم الضفة الغربية بدون القدس والمستوطنات إلى الأردن، وتسليم أهل غزة إلى مصر وإنهاء الوجود الفلسطيني في فلسطين التاريخية، متجاوزا مبادرة السلام العربية (قمة بيروت 2002) حيث أصحاب الحق يلتجئون للكيان طلبا للسلام، وتنص على إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليا على حدود 1967، وعودة اللاجئين والانسحاب من هضبة الجولان مقابل تطبيع العلاقات مع الكيان، ولاقت إجماعا عربيا ودوليا، ولم تلق قبولا لدى الكيان رغم أنها لا تلبي سوى الحد الأدنى من الحق الفلسطيني بمعنى إعاقة الكيان لكل خيار سلام وترسيخ سياسة الأمر الواقع؛ هكذا حقق هدفه ضاربا جميع المبادرات العربية عرض الحائط، فلا انسحب من الأراضي العربية المحتلة، ولا اعترف بحقوق الشعب الفلسطيني لأن إستراتيجيته لإدارة الصراع تقوم أولا على تحقيق التفوق العسكري لمنع الدول العربية من محاولة القيام بأي عمل ضده والمعروف بنظرية “الردع ضد الدول العربية” لا على أساس تسوية عادلة للصراع، ثانيا على تفتيت الدول المركزية إلى كيانات صغيرة تقوم على أسس طائفية أو عرقية وتحويله إلى كيانات صغيرة متصارعة وقطع الطريق على الأطراف الإقليمية، ليتحول الإجماع إلى قرارات فردية لتحقيق مصالح ضيقة للأنظمة الوظيفية، وتعارض الإجماع العربي والدولي والشعبي وتعزل الدول بعضها عن بعض، وتدمر الثقافة والهوية الحضارية الإسلامية للمنطقة بكاملها لما يتيحه التطبيع لجامعات الكيان الصهيوني ومراكز الأبحاث والدراسات أن تصبح مرجعية علمية للمنطقة طبقا لبند التعاون الثقافي والأكاديمي في “اتفاقية أبراهام” وهدفها صياغة المنطقة عبر التطبيع الثقافي الذي يستهدف “جهاز المناعة ” و”منظومة القيم” و”الهوية العربية” مقابل هوية إبراهيمية جديدة بتوظيف الدبلوماسية الروحية لتقبل الكيان كمدخل للسلم الديني العالمي، بتحويل الصراع إلى “صراع هوية” لا “صراع أرض”، وتصفية القضية الفلسطينية وموت الدولة القومية؛ في هذا السياق جاء تقرير بعنوان “التطبيع العربي الإسرائيلي يسحق القانون الدولي” في صحيفة Publica الإسبانية”. دافع الكيان الصهيوني من وراء التطبيع هو محاصرة الفلسطينيين والسلطة وحركات المقاومة، وتجفيف منابع التمويل والدعم السياسي على المستوى الرسمي وتفتيت الحاضنة الشعبية في الدول المطبعة، ولا علاقة له بحل القضية الفلسطينية لأن عقد الاتفاقات أقيمت لمصالح تخص أصحابها، وفهم الكيان أن ذلك قبولا بصهيونيته وعنصريته وسياسته الاستيطانية، وبالتالي فهو يستفيد من التحيز الأمريكي قدر ما يستفيد من التطبيع وتقديم الدعم السياسي بفتح السفارات وتبادل الزيارات مرورا بالتبادل التجاري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والاستخباري، دعما له ولممارساته العنصرية، التي تعني في القانون الدولي وجود قانونين مختلفين لمجموعتين سكانيتين تعيشان على نفس الأرض، لتحقيق وجوده في فلسطين مقابل سلب الحق الوجودي للفلسطينيين، وهذا لا يمنع من الكلام في كل مناسبة عن التضامن العربي والإخوة الإسلامية ! عوض نقض الأساطير الأوربية التاريخية الداعمة للمشروع والمؤسسة له باعتباره مشروعا إنسانيا وحضاريا علما أن أوربا هي من اضطهدت اليهود، وإحلالهم بأرض فلسطين نوع من التعويض لاضطهادها التاريخي لهم ولدورهم في مجتمعاتها إذ لم تفلح في استيعابهم ولا في التخلص منهم لطبيعة الروافد الإيديولوجية والقيمية المغذية للشخصية اليهودية والمتحكمة بنسب كبيرة في سلوكياتها ومخرجاتها (فكرة الذنب تجاه يهود أوربا). والعقل اليهودي منذ بداية التاريخ، قسم العالم إلى “الأنا والأغيار” الأنا” “المقدس” و” “الآخر” “المباح” أي الرفض القاطع للأغيار، فهو عقل عنصري يبحث عن أرض الميعاد وإلهه هو إله “الشعب المختار” الذي عقد معه ميثاقا أبديا، تسانده حضارة قائمة على العنصرية التي تحمل في تعريفها خمائر العنف، تم التنظير لتفرد الجنس اليهودي عن باقي الأجناس تماشيا مع العنصرية التي كانت سائدة في فلسفة القرن التاسع عشر، تغذيها سياسة الكيان التعليمية التي تقوم على عقلية التفوق المتحكم في مقدرات المنطقة وتحقير الخصم وتجريده من صفاته الإنسانية، لذا وجب إقامة وطن قومي في أرض الميعاد يكون متفردا عن البلدان الأخرى حفاظا على نقاوة الجنس اليهودي، من هنا تفضيلهم العيش في (الغيتوهات).
ولا فرق بين الصهيونية واليهودية: الصهيونية حركة جماهيرية يغذيها تضامن قبلي فريد من نوعه، وتدور حول إلغاء الآخر وإعادة خلق الظروف التي يستطيع فيها اليهود الاحتفاء بسماتهم وخصائصهم، ومواجهة اندماج وانحلال الهوية اليهودية، الاندماج الديمقراطي فيها مستحيل ف:” أن تكون صهيونيا معناه أن تكون يهوديا في المقام الأول فاليهودية التزام سياسي. ولها جذور بنيوية خاصة وتتغذى من النهج اليميني الراديكالي القائم على الاستيطان واستراتيجية التوسع، ولا تؤمن بالتفاوض الجاد ولا تلتزم بالاتفاقيات والعهود والمواثيق وترفض قرارات الأمم المتحدة بشأن اللاجئين، وتسعى لمزيد من الامتداد والشمولية، وتعتبر الأمن مقابل السلام هدفا وليس الأرض مقابل السلام، ينص قانون القومية أن الاستيطان يهودي وقيمة قومية؛ نظام مبني على التمييز البنيوي، فهل أدرك المطبعون أن نظام تعليم الكيان ينتج ثقافة عدائية ضد العرب، وأن ما تلقنه الكتب الإسرائيلية هو شحذ أفكار الناشئة منذ الطفولة المبكرة بفكرة التعالي والتسامي والتفوق، وبروح العداء والاحتقار للعرب وإشعارهم بعدو متربص بهم عليهم أن ينتقموا منه بشدة كلما أتيحت لهم الفرصة؟ وتلعب البيئة العنصرية داخل البيت دورا في بلورة العقلية الصهيونية وتوجهاتها، ولا يتوقف الجهاز بجميع مستوياته عن التحريض، فينشئ إجماعا صهيونيا مدربا عليه، وجيلا يتعرض لمساعي شحذ وتدجين بصورة يومية من الولادة حتى الممات. يقول زئيف فلاديمير جابوتنسكيev Vladimir Jabotinsky) ‘ (Ze إن كل إنسان على خطأ وأنت وحدك- الصهيوني– على صواب، لا تحاول أن تجد أعذارا من أجل ذلك فهي غير ضرورية. وليس بوسعك أن تعتقد بأنك شيئا في العالم إذا اعترفت ولو لمرة واحدة أن خصومك قد يكونون على صواب،لا أنت، فهذه ليست الطريقة لتحقيق أي أمر، لا توجد في العالم إلا حقيقة واحدة وهي بكاملها ملكك أنت.”
- التطبيع جريمة سياسية وخطيئة تاريخية
تطبيع العلاقات مع العنصرية الصهيونية المخالفة لجميع القرارات الدولية غير طبيعي، رغم عدم إغفال الوضع العربي وسياقه التاريخي، ورغم أن توحيد العرب أمر عسير كما دلت التجربة هناك ( خلاف عربي عربي، خلاف خليجي، واستثمار الإدارة الأمريكية الساعية إلى دمج الكيان في أحلاف إقليمية قبل التوصل إلى حل القضية الفلسطينية، الخلاف العربي الإيراني لخلق التقارب مع الكيان الحليف الحريص على دول المنطقة والقادر على مواجهة الخطر الإيراني، والخلاف الفلسطيني الفلسطيني: رفض حماس لكل أشكال التطبيع الذي ترى فيه خيانة لشعوب الأمة وقيمها وأخلاقها وتفريط بتضحيات الشعب الفلسطيني) وتأثير الربيع العربي ومخرجاته، إضافة إلى أن العلاقات العربية مع الكيان مستمرة منذ سنوات بحيث استخدمت الدول العربية وخاصة الخليجية المؤسسات الاقتصادية والتجارية لفتح قنوات الاتصال السياسي وأخرى لها نفس العلاقات بالكيان (قطر وسلطنة عمان)، زيارات لقيادات صهيونية وفرق رياضية بين الكيان والدول الخليجية علما أنالتطبيع الرياضي أخطر أشكال التطبيع يقول “هرتزل” في إحدى خطاباته:”مهرجان رياضي واحد أقوى من مائة خطبة من خطاباتي”، و يسعى ولي العهد السعودي لإخراج بلده من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي مقابل بناء تحالف استراتيجي مع إسرائيل تجاه إيران، مؤكدا أن من حق الإسرائيليين العيش في أمان على أرضهم” مشددا على أنها ليست العدو بل إيران كما ورد في “صحيفة أتلانتيك” ونعتبرها مجرد انطباعات وانفعالات تنتصر للصهيونية قافزة على طبيعة المشروع الصهيوني ودولته، تعالج أعراض لا جذور المشكلة وجانبها التاريخي التحليلي الجوهري، وكأنه ليس هناك أبعد مما هو حاضر، وكأن التطور الذي تستحقه المنطقة يمر عبر الكيان (= العقل المتفوق والإنسان السوبرمان) والدول العربية بثرواتها ورؤوس أموالها سوف تبقى بحاجة لعقل ومعرفة الكيان الصهيوني، الشريك الموثوق للأنظمة العربية في طريق الازدهار، والحال أن نهضة المنطقة مرتبط بالتخلص من مشروعه المبني أساسا على بقاء البيئة العربية الإسلامية ضعيفة مفككة ومتخلفة ويمس أهم قضية من قضايا العرب المعاصرة، قضية نهضتهم وعودتهم كأمة إلى مسرح التاريخ أمر يتوقف على التخلص منه عوض إضفاء الشرعية عليه، في تجاهل تام لقول رئيس المؤتمر الصهيوني الأول”تيودور هرتزل” عام 1897م بسويسرا “إن تطلعات الصهيونية العالمية لا بد أن تصل إلى إضعاف وتقسيم الجزيرة العربية:”إن ما يلزمنا ليست الجزيرة العربية الموحدة، وإنما الجزيرة العربية الضعيفة المقسمة الواقعة تحت سيادتنا، المحرومة من إمكان الاتحاد ضدنا.” وقول “مناحيم بيغن”:” لن يكون سلام لشعب إسرائيل، ولا لأرض إسرائيل، ولا للعرب، ما دمنا لم نحرر وطننا بأجمعه بعد، حتى لو وقعنا معاهدة الصلح”!. وبعد تدنيس ساحة المسجد الأقصى والاعتداء على حائط البراق في احتفال ضخم ونفخ بالأبواق عام 1967م، ألقي “دافيد بن غوريون) خطابا ورد فيه:” لقد استولينا على القدس، واستعدناها وغدا سيكون طريقنا إلى يثرب”، أما “موشي ديان” فقال يوم احتلال القدس:”الآن أصبح الطريق مفتوحا أمامنا إلى المدينة ومكة”، وتطلعت رئيسة وزراء الكيان “غولدا مائير” إلى الجنوب ثم قالت: “إني أشم رائحة أجدادي بالحجاز، وهي وطننا الذي علينا أن نستعيده”، بعد أن فقدت الجماعة اليهودية المتفرقة في شتى بقاع العالم وضياع الروابط والمكونات التي تشكل الجماعة ومقومات وجودها كجماعة واحدة: روابط اللغة والأرض والحياة المشتركة.
2- التطبيع إنجاز استراتيجي للكيان الصهيوني
التطبيع- انطلاقا من الحقائق أعلاه إنجاز استراتيجي للكيان الصهيوني ومدخل لتصفية القضية الفلسطينية، إذ مكنه من فتح عهد جديد للعلاقات مع المطبعين عبر “اتفاقية أبراهام” التي تبين مدى قدرته على التوسع في المنطقة في الوقت الذي لا زالت آلة قمعه مستمرة في سفك دماء الفلسطينيين وسلب أراضهم وحقوقهم وتدمير مقدراتهم، ومدى انغماس الإدارة الأمريكية بالعقلية الإيديولوجية التي شكلت خلفيتها الأساس وكرست بعدها الديني، موظفة الرواية الدينية في الصراع السياسي والحلول القائمة على القانون الدولي والشرعية الدولية، وتعكس التحالف الاستراتيجي العسكري؛ فالإمارات والبحرين والمغرب دول لا تملك حدودا مشتركة مع الكيان ولا خاضت حروبا معه ليصبح الكيان الصهيوني المحتل بهذا الاتفاق دولة ذات سيادة ومعترف بها، وهذا إنجاز له في كافة المجالات، وجريمة سياسية وخطيئة تاريخية للأمة العربية، بالأخص المجال الأكاديمي، وأكبر تحدّ يواجهها لأنه يخدم مشروع اليمين المتطرف الساعي إلى إسرائيل الكبرى.
التجأ الفكر العسكري الصهيوني للشعوب بعدما تبين له أنها من تملك إرادة الرفض والمقاومة، من هنا إصراره على الاختراق الثقافي المدروس عبر إقامة علاقة صداقة معها ونشر ثقافته لأهمية هذا الميدان في ضخ التصورات التي يريدها في عقول الشعوب، ولأنه يستهدف كل ما يتصل بالتاريخ والوعي العربي وإعادة صياغته. فوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار انخرطت في مسلسل التطبيع مع الكيان في مجالات التكنولوجيات الحديثة والرقمنة والذكاء الاصطناعي، وكذا تكوين الدكاترة من الجيل الجديد، وتبادل الطلبة والخبرات والمعرفة. كشف نائب رئيس مكتب الاتصال الصهيوني في المغرب، “إيال دافيد”، أن جامعة عبد المالك السعدي بمدينة تطوان، وقعت مذكرة تفاهم مع جامعة حيفا الصهيونية، في إطار” التعاون الأكاديمي بين البلدين” تشمل التعاون في العلوم البحرية وفي ميادين الزراعة المائية المستدامة والتكنولوجيات البحرية والبحوث الإيكولوجية. وكانت النقابة المغربية للتعليم العالي والبحث العلمي قد استنكرت إقدام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار على “الزج بمؤسسات التعليم العالي في محافل التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت مسميات الشراكة الأكاديمية والبحثية” شركة صهيونية زودت المملكة المغربية بطائرات انتحارية بدون طيار “كاميرات حرارية، وتستخدم للمهمات الإستراتيجية والتكتيكية، مع أنظمة لجمع المعلومات الاستخبارية، عن طريق أربع استشعارات إلكترونية، وتحديد المواقع الجغرافية عن طريق الإشعاعات الكهرومغناطيسية الصادرة عن المواد المشعة والقنابل النووية”، كما تمّ توقيع اتفاقية تاريخية في مركز الطاقة والاستدامة في جامعة بار إيلان (وسط) مع إطلاق أكثر من خمسين مجموعة بحثية في كلا البلدين (المغرب والكيان الصهيوني) في مجالات “الطاقة الشمسية والهيدروجين وتخزين الطاقة ونقلها”. نجح الكيان عبر إستراتيجيته في جعل القضية الفلسطينية لم تعد عائقا أمام بناء “علاقات طبيعية” مع الدول العربية وتطورها بل أن يجعل العلاقة معها تتحول من مرحلة المواجهة المسلحة إلى مرحلة التسوية السلمية للصراع، وإدارته وتحييد بعض أطرافه باستغلال وتر التناقضات والخلافات العربية البينية واستمالة طرف ضد الآخر من 1978 إلى 2020 السنة التي شهدت تحولا طارئا في العلاقات وصفته صحيفة هآرتس ب “إجراء تعديل جيو- سياسي إقليمي” في المنطقة.
تبين للكيان أن التفوق العسكري وامتلاك مختلف أنواع الأسلحة لم يوفر له الأمن، فلجأ إلى الشراكة الأمنية مع الجوار العربي بتوثيق العلاقات معه عبر بوابة التطبيع وهي من مقومات نظريته الأمنية، وتملك جزءاً مما يبحث عنه من شرعية وجوده والاعتراف بسيادته على الأرض المغتصبة بالتطبيع الثقافي، وأخطر أهدافه (=التطبيع الثقافي) التعامل مع الكيان كدولة طبيعية وتأمين الغطاء السياسي والثقافي له والتضييق على المقاومة، وتخفيف العزلة عنه بإخراج علاقاته الخفية مع العالم العربي والإسلامي إلى العلن، ليضحى المحتل حليفا يحقق نصرا دبلوماسيا مهما. وأساس هذا “التطبيع الجديد” المحكوم بمبدإ “السلام مقابل الازدهار” تجاوز “السلام مقابل الأرض” أي إنهاء مفهوم النزاع العربي- الإسرائيلي عبر اختراق دول عربية وتحويلها إلى أدوات وظيفية لحماية أمن الكيان تجسيدا لمقولة “بن جوريون”:” إن الأسلوب الآخر لضمان أمن إسرائيل، يكون عن طريق إقامة علاقات صداقة مع جميع الدول خاصة دول آسيا وإفريقيا”، ومفهوم الكيان للأمن هو التفوق العسكري والاقتصادي والدبلوماسي يصبح عبرها صاحب النفوذ والريادة ودولة الاستقطاب الأولى والقوة العسكرية والاقتصادية البارزة في منطقة الشرق الأوسط.
3- أهمية المنطقة العربية في التطبيع
بدأت صياغة المنطقة كفكرة قبل عقود لتتبلور منذ عام 1974م، وتصبح مشروعاً جاهزاً في الثمانينيات من القرن الماضي بعد طرحها أمام “الكونغرس” في عهد الرئيس “رونالد ريغان”، وتخرج إلى العلن في فترة وزيرة الخارجية ” كونداليزا رايس” (2001م – 2005م)، ومستشارة الأمن القومي الأميركي (2005م – 2009م) في عهد ولاية الرئيس “جورج بوش” الابن تحت مسمى “مشروع الشرق الأوسط الكبير” الممتد من أفغانستان شرقا، حتى اليمن والصومال جنوبا، ثم السودان، مرورا بالصحراء الغربية حتى موريتانيا غربا، وعلى أساسه، يناط بدولة الكيان دوراً إداريا واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً في المنطقة العربية، ثم تم العدول عن هذه التسمية إلى “مشروع الشرق الأوسط الجديد”، وتصالح الأديان تحت مظلة الديانات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. التطبيع آلية تسدي خدمة جليلة للكيان الصهيوني لتنفيذ مشروع صفقة القرن، ومن خلاله ضمان السيطرة على الاقتصاد العالمي، ومنع الصين من التفوق الاقتصادي، فالمنطقة العربية تشكل مرتكزاً حيوياً للمشروع الصهيوني لموقعها الاستراتيجي ومواردها الغنية والمتعددة، وهي بحاجة إلى حماية هذه الموارد من مواقع الاستخراج مروراً بالبحار وصولا إلى مناطقها الاستعمارية وبالتالي فتأمين هذه المنطقة الإستراتيجية يعد عصب صياغتها لخدمة مشروع القرن، المخطط الرئيس للمشروع الصهيوني الذي سيلعب من خلاله الكيان الصهيوني الدور المحوري.
- هيكلة الحركة الصهيونية في المغرب 1917- 1929
اخترقت الحركة الصهيونية المغرب في وقت مبكر على يد حاخام طنجة الروسي ” ليون جافلون”(L . Jaflon). وتمتد جذور الاختراق السريع الذي يشهده المغرب اليوم على المستوى الرسمي إلى القرن التاسع عشر، وبالتحديد عام 1864 تاريخ إصدار السلطان محمد بن عبد الرحمان(1859- 1873) ظهير “الحرية لليهود.”وقصته أن أربعة من اليهود المغاربة اتهموا بتسميم مندوب الحكومة الإسبانية المكلف باستخلاص التعويضات التي فرضتها إسبانيا على المخزن بمعاهدة تطوان عقب هزيمة 1860، وما ترتب عنها من غرامات خارقة وشروط سياسية مخجلة مست بكيفية خطيرة وحدة التراب الوطني على الخصوص، وطالبت الحكومة الإسبانية بمعاقبة المتهمين فأعدم إثنان منهم عام 1863. واستغلت الرابطة الإسرائيلية العالمية الفرصة للقيام بحملة ضد “اضطهاد اليهود” في المغرب، فبعثت بالثري موسى”حاييم مونتيفيور” للتدخل لدى السلطان بمراكش. قدم هداياه وحصل على ظهير صدر يوم 5 فبراير( 1864م- 1280هـ) مضمونه:”نأمر من يقف على كتابنا هذا من سائر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أعمالنا أن يعاملوا اليهود بميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام، حتى لا يلحق أحدا منهم مثقال ذرة من الظلم ولا يضام ولا ينالهم مكروه ولا اهتضام. يقول المؤرخ خالد الناصري عن نص الظهير:”ولما مكنهم السلطان من هذا الظهير أخذوا منه نسخا وفرقوها في جميع يهود المغرب وظهر منهم تطاول وطيش.” و لما أحس السلطان ببطشهم عقّب الظهير بكتاب آخر بين فيه أن الظهير يسري على أهل المروءة منهم المشتغلين بما يعنيهم. وأما صعاليكهم المعروفون بالفجور والتطاول على الناس والخوض فيما لا يعنيهم فيعاملون بما يستحقونه من الأدب. ومن نتائج الظهير قيام اليهود المغاربة بتوثيق روابطهم مع الرابطة الإسرائيلية العالمية وممارسة مجموعة من الأنشطة بكيفية علنية رسمية، من جملتها إنشاء المدارس الإسرائيلية بمساعدة الرابطة المذكورة وتحت مراقبتها في مختلف المدن المغربية.
يذكر الجابري في سرده للحائق التاريخية لاستعراض مضمون السياسة التعليمية الفرنسية ببلادنا أن الحماية الفرنسية وجدت تعليما إسرائيليا في المغرب، فشجعته وساعدته بإبرام اتفاقية بين الرابطة الإسرائيلية العالمية ومديرية التعليم بالمغرب عام 1915، وهي اتفاقية بمثابة القانون الأساس وبمقتضاها كانت المدارس الإسرائيلية تتلقى إعانات مالية من إدارة الحماية، واستمرت حكومات الاستقلال في تقديم هذه الإعانة.وفي الرابع سبتمبر عام 1900 تأسست في موغادور رابطة صهيونية ” أبواب صهيون” رئيسها “دافيد بوحبوط” الذي أرسل خطابا إلى “هرتزل” يخبره بإنشاء الرابطة وبالترويج للشيكل الصهيوني في شمال إفريقيا. و”رابطة العودة إلى صهيون” في تطوان بتاريخ 11 سبتمبر. ورابطة “حب صهيون” في مدينة آسفي عام 1902 وأعربت عن استعدادها لخدمة الفكرة الصهيونية (أرض إسرائيل) وأعلنت “هرتزل” رئيسا شرفيا لها. ثم رابطة “محبة صهيون” في فاس. وأصدر ” يوناثان طرشر” مندوب الاتحاد العالمي في المغرب مجلة “المستقبل الواضح” عام 1948. وحرص الاتحاد الصهيوني في المغرب على افتتاح فصول لتدريس اللغة العبرية بالاشتراك مع جماعة ” كل شعب إسرائيل أصدقاء” لبذل المزيد من الاهتمام بالتعليم العبري ” رابطة ماجين داوود” و” رابطة محبي اللغة العبرية” و” رابطة بناة القدس” في العرائش، و” رابطة شارل نيطر” التي نظمت دورات عن فلسطين والاستيطان بها. وكان التلاميذ يتلقون دروسا في اللغة العبرية و أخرى في تاريخ الاستيطان والفكرة الصهيونية. وتمركز نشاط هذه الروابط على بيع الشيكل والحملات الدعائية لجمع التبرعات وترويج أسهم الاستيطان اليهودي، وضمت اليهود الأغنياء وأصحاب المناصب المهمة وكبار الحاخامات، وظهرت صحف صهيونية في المغرب بدءا من سنة 1926: “L’Avenir Illustré” ” المستقبل المصور”، وأسبوعية ” نهضة إسرائيل” Rinacimiento de Israel بمدينة طنجة تمتع بهامش من الحرية. جاء في مقال المستقبل المصور يوم 23-3-1927:” إننا لا نرغب في الحصول على الذهب الأمريكي فقط بل أيضا على الذهب المغربي.”
- اليهود المغاربة ومسلسل الصهينة
ازدهرت الحركة الصهيونية في المغرب بعد الحرب العالمية الثانية ليتجاوز نشاطها مرحلة التعبئة والدعاية والتبرعات إلى تأهيل يهود المغرب للهجرة لزيادة نمو عدد الصهاينة في فلسطين مثلما ازدهرت المراكز الثقافية العبرية لنشر اللغة العبرية في الدار البيضاء. وتأسست خلايا صهيونية سرية غداة مؤتمر بال(1897) بكل من الصويرة وتطوان بهدف”إعادة بناء وطن قومي بأرض إسرائيل” والرجوع إلى ” القيم والتقاليد اليهودية الخالصة” التي كانوا يرون أنها ابتعدت عن صفائها الأصلي، بسبب الممارسات المبتدعة بتأثير المحيط الإسلامي، ومجموعات صغيرة بكل من فاس ومكناس وصفرو 1906، وكان من ورائها بعض الحاخامات والتجار وبعض قدماء تلاميذ الرابطة الإسرائيلية العالمية، ويستعملون الملاحات والبيعات لدعايتهم، مؤكدين بأن الصهيونية ليست إلا “التسمية العصرية لحلم يرجع إلى ألفي سنة. ولأن سلطان الربح يسكنهم فقد أدى النزوع لحرمانهم من لعب دور الوساطة التقليدي الذي كانوا يتميزون به في الشركات الأجنبية وظهور مؤشرات قرب الحماية واستحواذ فرنسا على المغرب إلى تسهيل الاستجابة للنداءات الداعية إلى” الاستقرار” في فلسطين لا مجرد القيام بمناسك الحج أو قضاء ما تبقى من العمر في” أرض الأسلاف المقدسة التي لا تتفسخ الأجساد فيها أبد الدهر” بل لتأسيس دولة يفترض فيها أن تصبح إطارا ” لانبعاث الشعب اليهودي ووضع نهاية للتيه والمنفى (الجالوت).” وكان الإسراع لتلبية نداء التوجه للاستقرار في “الوطن القومي” بمجرد سماع خبر دخول الجنرال الإنجليزي ” اللنبي Allenby” إلى القدس حيث قام قنصل إنجلترا بعرض فيلم عنه في مدينة تطوان، فاستقر رأي عائلات تملك بعض الموارد المالية في مدن فاس وصفرو والدار البيضاء ومراكش على الهجرة النهائية إلى فلسطين.”
- اليهود المغاربة وبناء “الوطن القومي”
شكل اليهود على امتداد العصور إلى حدود أوائل القرن العشرين وإقرار نظام الحماية (1912) أقلية دينية إثنية غير مسلمة إلى جانب الساكنة المسلمة العربية والأمازيغية، فتاريخ الجماعة اليهودية بالمغرب قديم لكن الفترة ما بين (1912-1948) شهدت تقويض القاعدة المادية والأخلاقية التي كانت تقوم عليها العلاقات بين سكان البلاد المسلمين واليهود، بفعل تأثير التحولات الناتجة عن التدخل الاستعماري، لتتدهور عقب تأسيس دولة الكيان إضافة إلى القطائع التي عرفتها العلاقات مع المجال المغربي الأصلي لهذه الجماعة بفعل هجرتها المكثفة نتيجة إنشاء تجمعات صهيونية وتوسيع أنشطتها الإيديولوجية التعبوية في”الملاحات” و”البيعات” الرامية إلى” أن تصبح فلسطين يهودية بمقدار ما تكون إنجلترا إنجليزية”، والطامحة إلى إعادة بناء هيكل سليمان وبسط النفوذ إلى “ما وراء دجلة والفرات.” وأفضت الجهود المتعددة الأشكال ودهاء مسيري الحركة الصهيونية ومساعيهم لدى الإقامة العامة بالرباط والحكومة الفرنسية بباريس في نهاية الأمر إلى مكسب أول كان له صدى واسع تمثل في عقد مؤتمر صهيوني في الدار البيضاء ضم ممثلين عن مناطق المغرب الثلاث وأعطى دفعة قوية للنشاط الصهيوني في البلاد، إذ احتل التجار اليهود مكانة متميزة بالنسبة لتجارة الجملة المتعلقة بالشاي والسكر والشمع والصابون بالإضافة إلى مهنة الصرافة، وفتح بعضهم مطاحن كبرى في فاس والدار البيضاء فيم تكفل آخرون بمهمة تمثيل بعض كبريات الشركات الأمريكية كما مارس آخرون الصناعات التقليدية والتجارة المتنقلة وحتى الزراعة. وانتشرت بعض العائلات اليهودية خارج أحياء الملاح واستقرت في الأحياء الأوربية الجديدة بنسب تجاوزت بكثير نسبة أغنياء المسلمين. بلغ “عدد الأسر التي استقرت بالمدينة الجديدة بفاس قبل 3 شبتمبر 1939 إلى 21 عائلة مسلمة و 270 عائلة يهودية”، منهم محميون فرنسيون شأن “أبرهام إسرائيل” رئيس الجماعة اليهودية بتطوان. والمحميون أو المجنسون يمارسون الهيمنة الكبرى لتمتعهم بامتيازات كالانفلات من سلطة المخزن. وكان لهم دور في حصول بعض المغاربة على بطاقة الحماية والجوازات الأجنبية. وفي ظل العلاقة الوثيقة بين الرابطة الإسرائيلية العالمية والحكومة الفرنسية، ظهر نمط جديد من السلوك لدى سكان بعض اليهود وأصبحوا لا يترددون كما كان الأمر عليه قبل 1912، في اعتراض سبيل العرب واستعمال السكاكين في المشاجرات، وذهب البعض منهم إلى حد عرقلة مسيرة بعض الطرق الدينية. علق ليوطي على مثل هذا السلوك باستنكار “فالساكنة اليهودية التي هي اليوم مدينة للحماية الفرنسية بتحررها من وضعية العبودية التي عاشت فيها منذ قرون، تعقد مهمة السلطات لأنها ساكنة لا تعامل رجال المراقبة باللياقة اللازمة، وتتصرف بوقاحة تجاه المسلمين الذين لم تعد تخاف تحديهم محتمية في ذلك بوجودنا.” كانت العائلات الكبرى المسلمة كما هو الشأن في الأوساط اليهودية تتمتع كلها تقريبا بالحماية الأجنبية (إنجترا، الولايات المتحدة، فرنسا، إسبانيا والبلاد المنخفضة)
- موقف الحركة الوطنية من الأنشطة اليهودي
من المدارس الإسرائيلية إلى الخلايا الصهيونية:اهتم المغاربة بالنشاط الصهيوني لبعض اليهود أكثر من اكتراثهم بجدالهم مع الإقامة العامة. كانت العائلات اليهودية الكبرى تقوم بتغذية صناديق المؤسسات الخيرية بالهبات والثروات التي راكموها في المغرب قبل الحماية. وتأسست خلايا صهيونية سرية في كل من مدن الصويرة و تطوان غداة مؤتمر بال (1897)، وبفاس ومكناس و صفرو غداة انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء(1906) وكان من ورائها بعض الحاخامات والتجار وبعض قدماء تلاميذ الرابطة الإسرائيلية العالمية. وهاجرت أولى العائلات التي تملك موارد مالية اكتسبتها في المغرب هجرتها النهائية إلى فلسطين من فاس وصفرو والدار البيضاء ومراكش حينما بلغها دخول الجنرال ألنبي (Allenby)إلى القدس.
ورغم البيعة التي في عنقهم تجاه السلطان والسكينة التي كانوا ينعمون بها في المغرب والإصلاحات التي تم إدخالها لصالحهم إضافة إلى أن سياسة الحماية كانت تهدف إلى الحفاظ عليهم” في منأى عن التوجهات الصادرة عن المنظمة المركزية للصهيونية وموقف السلطان الرافض لتطبيق القوانين الفرنسية المناهضة لليهود ” قوانين فيشي العنصرية” مبررا موقفه:” أن صاحب الجلالة سيخرق القوانين الشرعية إذا صادق بواسطة ظهير على إجراءات منافية لروح النص القرآني ولفظه، التي تبيح لأهل الذمة من النصارى واليهود العيش في دار الإسلام وممارسة كل الحرف والصنائع غير الشرعية شريطة دفعهم الجزية واحترام الدين الإسلامي.” وأكد في استقباله لوفد أعيان اليهود 1942 على” حق هذه الفئة من رعاياه بالتمتع بالحماية الملكية مشددا على المساواة في التعامل التي يجب أن تتوفر لهم إسوة بمواطنيهم المسلمين.” ورغم أن مجموع الطبقة العليا من السكان لا ينظرون بعين الرضا للنشاط الصهيوني، والظروف السياسية كانت تتعارض وإنشاء تجمعات صهيونية، فقد استمر أعضاء من مجلس النواب والشيوخ ومسيرو “المنظمة الصهيونية العالمية” و”الفدرالية الصهيونية لفرنسا” و”صندوق إعادة البناء اليهودي” في ممارسة ضغوطهم على الحكومة الفرنسية وعلى الإقامة العامة بهدف تليين موقفها تجاه الصهاينة.
- محاولة إشراك اليهود المغاربة في المطالبة بالاستقلال
شكلت هذه النازلة “محك اختبار” أقطاب الحركة الوطنية تجاه الحركة الصهيونية العدوانية المتصاعدة جراء تواطئ الإقامة العامة وسعيها لقمع الحركة الوطنية وضعت المطالبة بالاستقلال اليهود في موضع دقيق للغاية وبينت معدنهم، قدم الوطنيون عريضة الاستقلال بتاريخ 11 يناير 1944، و بما أن هؤلاء الزعماء كانوا يتحدثون باسم جميع المغاربة بدون تمييز في الانتماء الديني أو العرقي، حاول الموقعون الحصول على الالتزام الرسمي لأعيان اليهود بمطالبهم، خاصة وأنهم كانوا يعتبرون الصدمة التي خلفتها في الملاحات قوانين فيشي قد زعزعت ميلهم للفرنسيين، وافترضوا بأن انضمام مواطنيهم اليهود لبرنامجهم من شأنه أن يعزز مواقفهم تجاه الحلفاء واللجنة الفرنسية للتحرير الوطني، فامتنع “اليهود المغاربة” عن التوقيع وصمتوا في أعقاب الاضطرابات والاعتقالات والمواجهات بين الأهالي وقوات الاحتلال التي هزت مدن الرباط وفاس وغيرها من المدن المغربية، رغم أن العريضة شددت على أن””الأمة المغربية التي تكون وحدة متناسقة الأجزاء تشعر بما لها وما عليها داخل البلاد وخارجها تحت رعاية ملكها وتقدر الحريات الديمقراطية.” وانكبت الجماعات اليهودية على الانشغال بأولويات لا علاقة لها بأوضاع المغرب، وبالتحديد اختيار مندوبين لحضور المؤتمر اليهودي العالمي المزمع انعقاده في الولايات المتحدة الأمريكية (مؤتمر أتلانتيك سيتي ويهود المغرب) الذي احتكر تمثيلية يهود المغرب، لتدارس قضايا في طليعتها مساعدة اللاجئين الذين يتقاطرون على المغرب من إسبانيا حيث تم فتح مخيم لهم في المحمدية، والمطالبة برفع القيود الإنجليزية التي تحد من الهجرة نحو فلسطين، وتنشيط مساعي تأسيس دولة يهودية. وانتخب س.د.ليفي الذي يمثل المنطقة الإسبانية نائبا لرئيس اللجنة السياسية للمؤتمر، وركز تدخلاته على شعار” ” بنو إسرائيل في أرض إسرائيل” وقدم ” بتاريخ 20 فبراير 1945 في الدار البيضاء تقريرا عن مهمته في أمريكا.. فبالنسبة لهم (باستثناء الصهيونية) كل الحلول ليست إلا عابرة أو مؤقتة.”وطلب الصهاينة من الإقامة العامة منح الجماعة الإسرائيلية وضعية خاصة لأن ذلك ” سيمكن اليهود المغاربة من التخلص من التبعية للقضاء المخزني (هل المغربي) والارتباط فقط بالتشريع والمحاكم الفرنسية”. ولم يضع المقيم العام “غابريال بيو” والمدير الجديد للشؤون السياسية “فيليب بونيفاس” أي عائق أمام الجهود التي كان الصهاينة وعلى رأسهم س.د.ليفي يبذلونها من أجل تنظيم الحركة الصهيونية في مجموع التراب المغربي بكيفية أكثر منهجية، علما أن السلطان هو الوحيد الذي اعترض على تطبيق قوانين فيشي في المغرب. وكرد فعل على التعبئة التي قام بها الصهاينة لاحتكار تمثيلية الجماعات اليهودية المغربية في أتلنتيك سيتي ذكرهم السلطان في عيد العرش يوم (18 نوفمبر 1944) بواجباتهم باعتبارهم من جملة رعاياه مثلهم مثل المسلمين. فشلت جميع المحاولات للتقارب اليهودي الإسلامي في المغرب رغم الجهود المبذولة المنادية بأن “المغرب للمغاربة أي للمسلمين واليهود”. ندد محمد الخلطي بالصهيونية باعتبارها “خطرا عموميا” و “عنصر فوضى” و “فاشية عنصرية” و”نزعة وطنية شوفينية وغازية” يستخدمها “رجال أعمال جشعين لإخراج العرب من فلسطين.” ورغم ذلك واصل زعماء كتلة العمل الوطني حث اليهود على “إبعاد كل فكرة وطنية شوفينية لمصلحة القضية المغربية وتوحيد جهودهم مع جهود المسلمين حتى يضمنوا للبلاد المصير الذي يستجيب بكيفية أفضل لتطلعاتهم المشروعة في جو يطبعه السلام والوئام. وأفصحوا بتصرفهم هذا و بإلحاهم المستمر على “الوحدة الضرورية لكل المغاربة بهدف الحصول على الحقوق بدون تمييز ديني، غير أن النخب اليهودية تجنبت الرد عليهم، بل اعتبر الصهاينة مستقبلهم “فلسطينيا” وتجاهلوا الدعوة إلى الكفاح المشترك التي كانت كتلة العمل الوطني تدعو إليها “المواطنين اليهود”. وردوا على الانتقادات المبنية على “تخليهم عن واجباتهم كمغاربة” وجبنهم تجاه الإقامة العامة فقد رد عليها صهيونيو الدار البيضاء في صحافتهم قائلين:”إن قضايا السياسة المغربية لاتهمهم سواء بكيفية مباشرة أو غير مباشرة”. أما فيما يتعلق بشجاعة اليهود “فإن الأمر لم يعد في حاجة إلى برهان لأن عشرين قرنا من المعاناة المؤلمة قد طهرت اليهودية من عناصرها الضعيفة التي ذهبت، حتى في المغرب نفسه، لتعزز صفوف غير اليهود. ورفع العلم الصهيوني في طنجة يومي 3 و17 أبريل 1934. وأكد وطنيو تطوان أمام هكذا تحد أنه “لا يوجد في المغرب مكان للصهيونية وإذا كان اليهود يريدون أن يصبحوا أجانب فما عليهم إلا التصريح بذلك.” أمام هذا الموقف لجأوا للمناورات لتهدئة الوضع ليتمكن القادة الصهاينة من تكثيف دعايتهم وحث إخوانهم في الدين على تقديم المزيد من التبرعات لفائدة “الوطن القومي” في ظرفية طغت عليها أصداء تصاعد الاضطهاد النازي في ألمانيا، بل حثوا الشباب اليهودي على التوجه نحو الفلاحة والصناعة قصد تهيئة الهجرة نحو فلسطين. وفتحت لهذه الغاية مكاتب سرية بكل من الدار البيضاء ومكناس ومراكش، وشددوا على التقاليد الزراعية والرعوية ليهود الأطلس الكبير وعلى جودة “الخمور والكاشير التي ينتجها (الحلال) التي ينتجها المعمرون اليهود في المغرب”. كما حرصوا على تشغيل شباب أشداء في ضيعات إخوانهم في الدين (بسايس والشاوية والحوز) قصد تعلم الفلاحة والإعداد بكيفية خاصة ل “الإكثار من الحقول الخضراء في فلسطين بفضل العمل الجبار لرواد ياشوف (الوطن القومي). وتم تكثيف نشاط الفرع المغربي للمنظمة الدولية للمرأة الصهيونية وهي جمعية يوجد مقرها الرئيس بنيويورك، تدعمها السيدة الأولى اليونور روزفيلت (Eleanor Roosevelt ). عملت الشعبة المغربية من الدار البيضاء على نشر الإيديولوجيا الصهيونية بين النساء وجمع الهبات بشكل منهجي ومنتظم. وأفضت هذه الجهود ومساعي مسيري الحركة لدى الإقامة العامة بالرباط والحكومة الفرنسية بباريس إلى عقد مؤتمر صهيوني بالدار البيضاء ضم ممثلين من مناطق المغرب الثلاث وأعطى دفعة قوية للنشاط الصهيوني في البلاد. ولعل هذا دفع علال الفاسي إلى تحذير المستمعين خلال درس ديني ألقاه بالقرويين حول السيرة النبوية عن أدوار الخداع التي لعبها اليهود وعن غدرهم، كما ورد في تقارير الاستعلامات الفرنسية. هذا في الوقت الذي تضمن دفتر”مطالب الشعب المغربي” الذي رفعته الكتلة إلى كل من السلطان والمقيم العام ورئيس مجلس الوزراء الفرنسي بندا طالب من خلاله زعماؤها “مشاركة المغاربة في ممارسة السلطة في مختلف دواليب الإدارة وفصل السلطات…وإحداث مجلس وطني يتكون من ممثلي المسلمين واليهود المغاربة.” كان الصهاينة يستخدمون مختلف الدسائس والأطروحات التي تخدم أهدافهم، جاء في صحافتهم: إن اليهود المغاربة لا يتطلعون إلى التعمير الفلسطيني…إننا نحب الثقافة الفرنسية لكننا لا نرغب إلا في التحرك والاندماج داخل الحياة المغربية فقط. إن اليهود لا يجدون بدا من الاعتراف بالجميل لكل شعب منحهم السلم الأقوى كما هو الأمر بالنسبة للشعب المغربي”، وشكلت هذه النازلة “محك اختبار” أقطاب الحركة الوطنية تجاه الحركة الصهيونية العدوانية المتصاعدة جراء تواطئ (تباطؤ) الإقامة العامة وسعيها لقمع الحركة الوطنية.
- التطبيع الفضيحة المقاومة وطرق المواجهة
السؤال المؤرق هو كيف آل مستقبل هذا الماضي الذي تعمدنا تشريحه إلى ( إلى ماذا؟) بل إلى التحالف الاستراتيجي؟ هل من المعقول أن يؤول مستقبل هذا الماضي الذي اتخذ فيه الكيان من المغرب محطة عبور وسوق استثمار لمصالحه إلى التطبيع المذل، واستقبال الصهاينة، قتلة أطفال ونساء وشباب فلسطين، كل أسبوع وانتهاك كل القرارات العربية الداعية لمقاطعة العدو الصهيوني؟ وهل يمكن للذاكرة الجماعية للمغرب أن تنسى هدم حي المغاربة وهو وقف من عهد صلاح الدين الأيوبي؟ ما نتائج التطبيع وتفرعاته، وماذا استفاد المغرب منه؟ بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو وأثناء العودة من واشنطن عرج “إسحق رابين” و”شمعون بيريز” إلى المغرب للقاء الحسن الثاني وجرى فتح مكتب اتصال إسرائيلي عام 1994 ومكتب مواز في تل أبيب وفتح المجال للسياحة في المغرب، ليتم تجميد العلاقات الرسمية في الانتفاضة الثانية عام 2000 لتستمر العلاقات السرية. هكذا تواترت العلاقات بأبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية، وما التوقيع على التطبيع المهين بتاريخ 10 دجنبر 2020 سوى استمرار لتلك العلاقات، وهذا ما عبر عنه رسميا “باستئناف” العلاقات. وقضية الصحراء مفتعلة وليست السبب المحدد لأنها كما تؤكد ذلك الوقائع التاريخية والسياسية والقانونية، تعد قضية استرجاع الوحدة الترابية للمملكة وليس بتصفية الاستعمار. ويعزى التعاون الأمني بين الطرفين إلى أن توجهات النظامين غربية وعلاقتهما متميزة مع الولايات المتحدة والدول الأوربية وكلاهما شديد العداء للمد القومي واليساري في العالم العربي.
علم الشعب المغربي بالتطبيع عبر تغريدة في التويتر للرئيس الأمريكي المنتهية ولايته “دونالد ترامب” ورد فيها:”إنجاز تاريخي آخر، فقد اتفق اثنان من كبار أصدقائنا، إسرائيل والمغرب على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة”، معلنا اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية بقوله:” المغرب اعترف بالولايات المتحدة في العام 1777م، ومن المناسب أن تعترف بسيادته على الصحراء الغربية”، و”أكد بلاغ الديوان الملكي القرار التاريخي بالسيادة التامة والكاملة على صحرائه وبفتح قنصلية بمدينة الداخلة من أجل تعزيز الفرص الاقتصادية والاستثمارية لفائدة المنطقة، وأن المغرب يدعم “حل الدولتين” ويدعو لحماية “الطابع الإسلامي لمدينة القدس الشريف والمسجد الأقصى”، مشيرا إلى أن زيارة “جاريد كوشنر” عام 2018 “كانت حاسمة في مختلف القضايا”. الشرطان اختفيا في الاتفاق الثلاثي بل أشير إلى أهمية القدس بالنسبة للديانات الثلاث دون ذكر المحافظة على الطابع الإسلامي للمسجد الأقصى ناهيك عن مسألة السيادة على القدس. ما تضمنه الاتفاق بخصوص القضية الفلسطينية والقدس مريح جدا بالنسبة للكيان الصهيوني، بمعنى أن سياسات الاستيطان والتهويد والحصار وتعميق الاحتلال والاقتحام المتكرر للأقصى لا تؤثر على تطوير العلاقات مع دول التطبيع علما أن أن ملك المغرب هو رئيس لجنة القدس المنبثقة عن المؤتمر الإسلامي، وأنعلاقة المجتمع المغربي بالقدس وفلسطين حالة شعبية راسخة وتاريخ عميق تعززه مواقف الأحزاب اليسارية والقومية والإسلامية. وتعود العلاقة المباشرة مع فلسطين إلى أن الحجاج المغاربة عبر التاريخ كانوا يعرجون على القدس بعد عودتهم من الحجاز، ومشاركة جنود مغاربيين في جيش “صلاح الدين الأيوبي” محررها الذي احتفظ بالجيوش المغاربة وأمر بإقامة “حي المغاربة” في المدينة قائلا:”أسكنت هناك من يثبتون في البر ويبطشون في البحر وخير من يؤتمنون على المسجدالأقصى وعلى هذه المدينة.
نتائج التطبيع وإفرازاته
- قام التطبيع بناء على الضغوط والمقايضات الأمريكية والإغراءات الصهيونية ويعكس العلاقات السياسية للأنظمة الحاكمة دون شعوبها. ادعت الدول المطبعة أنه سياسة لابد منها بحكم الواقع وأنها ستدعم القضية الفلسطينية، وتجاوز تطبيع دول الخليج مرحلة التطبيع إلى مرحلة التعاون العسكري والاقتصادي بهدف ضرب الوحدة العربية وإغراق الأمة بالحروب والنزاعات الداخلية لتسهيل السيطرة الإستراتيجية للكيان على منطقة الشرق الأوسط برمته. وهذا ما تحرص عليه الإدارة الأمريكية ومعها الدول الأوربية التي تجمع على “الحفاظ على التفوق العسكري الاستراتيجي للكيان الصهيوني في المنطقة. أماالنظام المغربي قد امتثل للضغوط الأمريكية والإسرائيلية في خلق علاقات مع الكيان تتعدى درجة التطبيع الأمني والعسكري لتصل إلى حد التحالف الإستراتيجي وتشمل مختلف مستويات التعاون- سياسي اقتصادي رياضي ثقافي فني أكاديمي- على حساب تصفية القضية والمواقف العربية والإسلامية، والدعم المقنع للفلسطينيين، ألم يلتزم وزير الخارجية للآباك “بالذهاب إلى أبعد الحدود في التطبيع مع الكيان” ! جاء في الاتفاقية:” الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية مقابل التطبيع مع الكيان الصهيوني واستخدام المجال الجوي بين البلدين وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والتكنولوجيا وفتح العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين”. ولم يشكل هذا الاعتراف اعترافا دوليا بل اعتراف الولايات المتحدة فقط، أما وزارة خارجية الكيان الصهيوني فلم تفصح عن أي موقف رسمي يقر بمغربية الصحراء بل لجأت إلى المراوغة تفاديا للاعتراف بمغربيتها، ما يفسر كلام الملك محمد السادس في خطاب العرش 20 غشت 2022 الداعي إلى ضرورة توضيح إسرائيل لموقفها “الموقف الضبابي لكل من الشريك التقليدي أي فرنسا، ثم الشريك الجديد إسرائيل، من هذا الملف”. فأي مصالح إستراتيجية للمغرب مع الكيان سوى منع التضامن العربي من أن يحدث أي نوع من التقارب مع المشرق العربي ومنع الإرادة العربية من التكامل والتماسك واستئصال إرادة التحدي العربية، وتعاظم مخاطر هيمنته على النظام، وتغيير طبيعة الصراع وصيرورته التاريخية، وتجاوز ما يُسمى “التطبيع الاضطراري” بسبب قضية الصحراء المغربية، لأن حلها يتعلق بفتح جسور الحوار الديمقراطي وتصفية الأجواء بين النظامين المغربي والجزائري، لأن توتر العلاقة بينهما يؤثر على مشروع بناء المغرب الكبير الذي تتطلع إليه الشعوب المغاربية.
والمستفيد الوحيد من التطبيع وارتفاع وتيرة تبادل الزيارات على مستوى الوزراء والمسؤولين ورجال الأعمال، وتوقيع مجموعة من الاتفاقيات الثنائية المتسارعة وعلى جميع الأصعدة هو الكيان أما المغرب فلن يجني أية آثار إيجابية، فالإدارة الأمريكية مع مقررات الأمم المتحدة أي مع حق تقرير المصير، بينما طورت الاستخبارات والدبلوماسية سياسة عزل المغرب عن محيطه الجغرافي تمهيدا للمواجهة مع الأشقاء العرب ( تونس، موريتانيا، الجزائر). والحال أن تجاوز ما يُسمى “التطبيع الاضطراري” لحل قضية الصحراء المغربية يتعلق بفتح جسور الحوار الديمقراطي وتصفية الأجواء بين النظامين المغربي والجزائري، لأن توتر العلاقة بينهما يؤثر على مشروع بناء المغرب الكبير الذي تتطلع إليه الشعوب المغاربية، بالإضافة إلى أن التطبيع مع الكيان من الناحية الأخلاقية غير مقبول إطلاقا، وما تحقق من ورائه على أرض الواقع خسارة للوطن.
تناسل فضائح الكيان الصهيوني وجرائمه
- الفضيحة الأولى تتعلق بخروقاته التمثيلية الدبلوماسية للكيان (مكتب الاتصال بالرباط) الرامية إلى تلويث المحيط وتكريس المفاهيم المنتمية للإيديولوجية المهيمنة. تساوق التطبيع مع ظهور معالم بناء نظام جديد للقيم هدفها التخريب المعنوي وسيادة أهداف مختلفة ومصالح متناقضة لتفكيك الجسد المجتمعي المغربي تجلت في الشذوذ الجنسي، والزواج المثلي، والابتزاز، والتحرش الجنسي لموظفات مغربيات في أماكن العمل والرشى والاستيلاء على هدايا رسمية؛ عناصر تشكل ضربة قوية لعملية التطبيع السياسي بين الطرفين. ونتج عن هذا التطور غير المنتظر انقسام واضح، طرف مغربي- إسرائيلي أراد الدفع بالتحقيق وأن تتولاه إسرائيل، بحكم تمتع المتهمين بالحصانة الدبلوماسية، حيث لا يمكن للقضاء المغربي استدعاؤهم، بل فقط مطالبة تل أبيب بطردهم، وطرف مغربي- إسرائيلي سعى إلى التستر على هذه الفضيحة إنقاذا لعملية التطبيع، وهذا التيار هو الذي عمل من أجل التطبيع منذ سنوات.وأن يقع التحرش في مقر العمل وعنف جنسي وشطط في استخدام السلطة، وانعكاس لعلاقات القوة غير المتكافئة، وانتهاك لحقوق الإنسان، وحدث مقرف يدل على بداية التطور النوعي الخطير في العلاقات المغربية مع الكيان أساسها الإهانة والإذلال والإساءة للوطن، والتأسيس لتدمير المجتمع المغربي من الداخل بتسخير (مكتب الاتصال) لتحقيق المخططات التدميرية المنصوص عليها في بروتوكولات حكماء صهيون، ومنها نشر الفساد والميوعة لدى الأجيال الناشئة ليسهل عليهم قيادتها. والمؤكد أن توظيف المرأة من صميم فلسفة الكيان الصهيوني ومن أبرز وسائله المتبعة لبلوغ الهدف وتحقيق الغايات باعتبار النساء والمال والنفوذ من أهم أسلحته، إذ يعتبر الموساد النساء أفضل وسيلة للإيقاع بالمستهدفين، بحيث يتم الاعتماد على أجسادهن في تنفيذ المهام الاستخباراتية التجسسية القذرة، ألم تقل” تسيبي ليفني” “نعم للقتل والجنس من أجل إسرائيل”، فضلا على أن اليهود هم رواد تجارة الجنس والدعارة في السينما والمسرح. والمفارقة الكبرى أن وزارة الخارجية كانت تروم إبقاء الملف سرا، غير أن عملية التسريب الاستباقي للإعلام جرت بهدف التقليل من حدة التهم، لينفلت الملف من أيدي المسربين وكانت نتائجه عكسية. ومن إفرازاته المساس برمزية الدولة (الملك) و فقدان احترام السلطة والثقة بها، واغتراب المثقف، والهدف هو لقضاء على التماسك الأيديولوجي لتصبح الأرض رخوة خالية من عنصر المقاومة. الفضيحة الثانية تتعلق باستهداف العقول إما بجذبها إلى الخارج أو بتحويلها إلى عناصر مغتربة في الداخل (مكتب الوساطة) للتسجيل للعمل في دولة الكيان في المجالات الحرفية: البناء والترصيص والتبليط والتمريض، برواتب مغرية ببناء مستوطنات للصهاينة وتمريض قطعان المستوطنين بأياد مغربية (= سياسة فرق تسد وخلق الكراهية المعتمدة من طرف الكيان وبأخس الطرق) أو بتوظيفها ضد مصلحة الوطن الحقيقية (شبكات الدفاع عن الصهيونية وترسب العداوة بين الشعوب وزرع مفهوم الولاء الشعوبي ليختفي ما له علاقة بالولاء القومي بإشاعة شعارات مثل (تازة قبل غزة).
مآل Devenir التطبيع
- ماذا بعد مرور عامين كاملين على الذكرى الأليمة للقضية الفلسطينية بتوقيع بعض الدول العربية على اتفاقية التطبيع برعاية أمريكية؟ أنتج الفيلسوف “جيل دولوز” مفهوم المآل(Devenir) ومفهوم الانفلات أو خطوط الانفلات (Lignes de fuite) لتفكيك مفهوم “المستقبل(L’avenir). فنحن عندما نتساءل عن مستقبل الكيان أو مستقبل الثورة أو مستقبل التطبيع(…) ، فإننا نهمل صيرورة مآلات الكيان أو صيرورة مآلات الثورة أو صيرورة مآلات التطبيع أي نهمل خطوط الانفلات (الحرب الأوكرانية ومفرزاتها، صراع الأقطاب العالمية من أجل مناطق النفوذ…) فالمجتمع يتحدد بخطوط انفلاته أكثر مما يتحدد بتناقضاته، فهو ينفلت من كل الجهات. ليست البرامج هي التي تصنع المستقبل، فواقع أي مجتمع من المجتمعات ليس منبثقا من تطبيق هذا البرنامج أو عدم تطبيق ذاك، بل هو واقع ناتج عن صيرورة المآلات المتعددة والمختلفة، وعن خطوط الانفلات التي تتجاوز البرنامج أو المخطط، فنحن لا نَصْنَعُ المستقبل بأيدينا بقدر ما نصنع فيه. ورغم النجاح الظاهري للتطبيع فقد فشل، وأفشله رد الشعب المناهض للتطبيع والمناصر للقضية الفلسطينية بالرفض والإدانة، وتصدر وسم مغاربة ضد التطبيع مواقع التواصل الاجتماعي وأن الاعتراف الثلاثي بمغربية الصحراء لا يبرر التطبيع مع الكيان الذي يواصل انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني، وعلى حساب القضايا العربية المصيرية. صحيح أن الزيارات متواصلة بين الطرفين آخرها زيارة رئيس الأركان المغربي وتدفق المسؤولين الإسرائيليين بشكل فج، والزيارات السياحية، وقد سجل حفل زيارة “هيولة” السنوي حضور أزيد من 2000 مشارك في مدينة الصويرة بتاريخ 19/9/2022 ، وهو رقم قياسي لكن يبقى التطبيع هشا ولا يستند إلى قاعدة سياسية واقتصادية واجتماعية. بل لم يعد المجتمع المغربي يقبل المفاهيم ولا المدركات التي تقدم له: علق أحد المغاربة على الزيارات المتناسلة:” هل يُفيدون المغرب بجلب الاستثمارات أو تقديم خدمات لهذا الوطن أم يفيدون الدول التي قدموا منها أمريكا والدول الغربية والكيان، ولا يستفيد المغرب سوى من صيحاتهم في المايكروفونات بأنهم يعتزون بأصولهم المغربية؟ المزاج الشعبي المغربي رافض للتطبيع لأنه ينظر للكيان شأن الشعوب العربية العدو الأول وإلى فلسطين قضيته الأولى. والشعوب العربية هي التي ستفشل التطبيع لأنها تملك إرادة الرفض والمقاومة، ومثلما أفسد رجل الشارع بحسه ووعيه عمليات تطبيع العلاقات المصرية الإسرائيلية في سوريا ولبنان وبصفة خاصة الأرض المحتلة لأنه يعلم أن عدوه هو فقط الكيان الصهيوني، الخصم الحقيقي الذي عليه أن ينازله. وسيؤدي العمل المستمر للقوى الرافضة بتحركاتها وفعالياتها ولقاءاتها وكتاباتها وندواتها وشعاراتها كشعارات “هاشتاغ أغلقوا مكتب التطبيع” إلى إفراغه من محتواه. ولن تغير سياسة التطبيع من حقيقة الصراع، بحكم أنها تمثل الأنظمة المطبعة بمنطق القوة بدل المنطق التحاوري مع شعوبها التي يبقى الكيان الصهيوني في نظرها كيانا عنصريا استعماريا استيطانيا اغتصب أرض فلسطين. ويوما ستتلاشى الضغوط وتنكشف الإغراءات ويحدث تغيير في الأنظمة السياسية المطبعة. وسيكون مصيره مصير مكتب الاتصال الذي فتح عام 1994 بالرباط وفتح المجال للسياحة في المغرب، ليتم تجميد العلاقات الرسمية في الانتفاضة الثانية عام 2000.